أدب
ذاع ديوان الشريف الرضيِّ في أرجاء الدنيا وتكلم عنه القدماء والمعاصرون، ذلك لأن الديوان اشتهر في حياة الشريف الرضي، حيث جمع الشريف شعره قبل موته ونسخه من عنده الناس.
تطرق الثعالبي في يتيمته لشعر الشريف الرضي، وقال إن الشريف الرضي هو أشعر بني هاشم، بل هو أشعر قريش كلها. بعد ذلك جمع أبو حكيم الخبْري الشافعي ديوان الشريف الرضي ورتبه، ثم انتشرت بعد ذلك نسخ الديوان عند الأدباء والمؤرخين.
التحقيق الأفضل لديوان الشريف الرضي – حسب رأيي – هو تحقيق الدكتور محمود حَلاوي الذي نشره في جزأين عام 1999م.
الشريف الرضي لقبٌ أطلق على الرجل، أطلقه عليه أبوه، أما اسمه فهو محمد بن الحسين بن موسى، وأمه هي فاطمة بنت الحسين، وأبواهما كلاهما ينتهي نسبه إلى زين العابدينَ بن الحسين بن علي رضي الله عنهم جميعا.
وُلد الشريف الرضي بالكرخ في بغداد عام 359ه لهذه الأسرة التي كانت تحظى بمكانة عالية. فأبو الشريف الرضي، الحسين بن موسى، كان نقيب الطالبيين (نَقابة الطالبيين هي هيئة رسمية أسستها الخلافة تعنى بشوؤن الأسر التي تنتمي لأبي طالب بن هاشم). وكان أبو الشريف الرضي من أهل العلم فكان الخليفة يؤمره على الحج، وكان الأمراء يستعينون به في حل النزاعات وإطفاء نيران الفتن.
كانت الحياة السياسية شديدة الاحتقان في تلك الفترة، فالدولة العباسية كانت تعاني ضعفا شديدا، والخليفة في بغداد كان ضعيفا لا يستطيع اتخاذ القرار، لأن بغداد كان تحت سيطرة البويهيين.
أدرك الشريف الرضي خلافة المطيع لله، لكنه كان صبيا فلم يحدث احتكاك بينه وبين الخليفة، لكنه احتك بالخليفة الذي أتى بعده وهو الطائع لله، فقد كان صديقا له.
كانت مكانة الخليفة رمزية، فكان البويهيون يعزلون من شاؤوا ويسجنون من شاؤوا ويظلمون من شاؤوا، حتى إن ظلمهم بلغ أسرة الشريف الرضي نفسها بعدما كانت تتمتع به من عز وجاه. فقد عزل عضد الدولة البويهي والدَ الشريف الرضي الحسينَ بن موسى، وسجنه بسجن القلعة وصادر أمواله. وكان الشريف الرضي يبلغ من العمر حينئذ عشر سنين، فتأثر تأثرا شديدا بهذه الحادثة وعبر عن ذلك بشعره في صباه حيث يقول:
أبكي على الأيام وهي ضواحك – في وجه غيري وهو فيها حائرُ
لو شاب طرف شاب أسود ناظري – من طول ما أنا بالحوادث ناظرُ
وقد استمر سجن والد الشريف الرضي 7 سنين، فلم تنته أزمة آل الشريف الرضي إلا بعد وفاة عضد الدولة البويهي، فلما أتى بعده ابنه شرف الدولة البويهي، أفرج عن والد الشريف الرضي وردّ إليه ما سلب البويهيون من ماله وانفرج الكرب وفرح الشريف الرضي بذلك، فقال لاميته في مدح شرف الدولة:
أحظى الملوكِ لدى الأيام والدولِ – من لا ينادم غير البيض والأسلِ
وأشرف الناس مشغول بهمته – مُدفَّع بين أطراف القنا الذبلِ
تطغى على قصب الأبطال نَخوته – وقائمُ السيف مندوب إلى القُللِ
بدأت علاقة الشريف الرضي بالبويهيين يومئذ، وكذلك بالخليفة العباسي الرمزي الذي كان حينئذ الطائع لله. كان الشريف الرضي محل إعجاب الجميع حينئذ وكان وزراء الدولة يكاتبونه ويثنون على علمه وأدبه. مع أن الشريف الرضي مدح أمراء الدولة البويهية المسيطرين على بغداد، ومدح وزراءهم ومدح الخليفة العباسي الطائع لله، لكن كان طموحه كبيرا وكانت نفسه تسمو به إلى مراتب بعيدةٍ في السلطة، فيقول من أبيات له:
قلِقَ العدوُّ وقد حظيتُ برتبة – تعلو على النظراء والأمثالِ
لو كنتُ أقنع بالنَّقابة وحدها – لَغَضَضتُ حينَ بَلَغتُها آمالي
لَكِنَّ لي نَفساً تَتوقُ إِلى الَّتي – ما بَعدَ أَعلاها مَقامٌ عالِ
بل إنه يخاطب بأشد من هذا، الخليفةَ القادر بالله فيقول له:
عطفا أميرَ المؤمنين فإننا – في دوحة العلياء لا نتفرقُ
ما بيننا يوم الفخار تفاوت – أبدا كلانا في المعالي مُعرِق
إلا الخلافةُ ميّزتك فإنني – أنا عاطل منها وأنت مطوَّقُ
كان الشريف الرضي كثير الرثاء لأحبابه، وله مراثٍ كثيرة في الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومن أحسن رثائه ميميته التي رثى بها أباه الحسين بن موسى حيث يقول:
وَسَمَتكَ حالِيَةُ الرَّبيعِ المُرهِمُ – وسَقَتكَ ساقِيَةُ الغَمامِ المُرزِمِ
وغَدَت عَلَيكَ مِنَ الحَيا بِمُوَدِّعٍ – لا عَن قِلىً ومِنَ النَدى بِمُسَلِّمِ
قَد كُنتُ أَعذُلُ قَبلَ مَوتِكَ مَن بَكى – فَاليَومَ لي عَجَبٌ مِنَ المُتَبَسِّمِ
وَأَذودُ دَمعي أَن يَبُلَّ مَحاجِري – فَاليَومَ أُعلِمُهُ بِما لَم يَعلَمِ
لا قُلتُ بَعدَكَ لِلمَدامِعِ كَفكِفي — مِن عَبرَةٍ وَلَوَ اَنَّ دَمعي مِن دَمي
ومن أشهر رثائه قصيدته التي رثى بها أبا طاهر الحمداني وكان الشريف الرضي يحبه فقال يرثيه:
أَلقِي السلاحَ رَبيعَةَ بنَ نِزارِ – أَودى الرَدى بقَريعِكِ المِغوارِ
وَدَعي الأَعِنَّةَ مِن أَكُفِّكِ إِنَّها – فَقَدَت مُصَرِّفَها لِيَومِ مَغارِ
وَتَجَنّبي جَرَّ القَنا فَلَقَد مَضى – عَنهُنَّ كَبشُ الفَيلَقِ الجَرّارِ
اليَومَ صَرَّحَتِ النَوائِبُ كَيدَها – فينا وَبانَ تَحامُلُ الأَقدارِ
كان للشريف الرضي غرض رقيق عرف به وهو الحجازيات، قال فيه أشعارا رقيقة في مواضعِ الحجاز ونجد، منها الغزل ومنها الحنين، فمع أنه عراقي، كان يفضل بوادي الحجاز ونجد على مدن العراق، ومن ذلك قوله:
أَقولُ لِرَكبٍ رائِحينَ لَعَلَّكُم — تَحُلّونَ مِن بَعدي العَقيقَ اليَمانِيا
خُذوا نَظرَةً مِنّي فَلاقوا بِها الحِمى — وَنَجداً وَكُثبانَ اللّوى وَالمَطالِيا
ومُرّوا عَلى أَبياتِ حَيٍّ بِرامَةٍ — فَقولوا لَديغٌ يَبتَغي اليَومَ راقِيا
عَدِمتُ دَوائي بِالعِراقِ فَرُبَّما –وَجَدتُم بِنَجدٍ لي طَبيباً مُداوِيا
ومن أعذب حجازياته أيضا قوله:
وَظَبيَةٍ مِن ظِباءِ الإِنسِ عاطِلَةٍ — تَستَوقِفُ العَينَ بَينَ الخَمصِ وَالهَضَمِ
لَو أَنَّها بِفِناءِ البَيتِ سانِحَةٌ — لَصِدتُها وابتَدَعتُ الصيدَ في الحَرَمِ
ومن رقيق غزله قوله:
يا رَوضَ ذي الأَثلِ مِن شَرقَيِّ كاظِمَةٍ – قَد عاوَدَ القَلبُ مِن ذِكراكَ أَديانا
شَغَلتَ عَيني دُموعاً وَالحَشى حُرَقاً – فَكَيفَ أَلَّفتَ أَمواهاً وَنيرانا
أَشُمُّ مِنكَ نَسيماً لَستُ أَعرِفُهُ – أَظُنُّ ظمياءَ جَرَّت فيكَ أَردانا
أَشبَهتَ أَظعانَ ذاكَ الحَيِّ مِن يَمَنٍ – طيباً وَحُسناً وَأَغصاناً وكُثبانا
ومن أبلغ ما قاله الشريف الرضي في المدح قوله في مدح فخر الملك:
أَحَقُّ مَن كانَتِ النَعماءُ سابِغَةً — عَلَيهِ مَن أَسبَغَ النُعمى عَلى الأُمَمِ
وَأَجدَرُ الناسِ أَن تَعنو الرِّقابُ لَهُ – مَنِ استَرَقَّ رِقابَ الناسِ بِالنِّعَمِ
إِذا سَما فَإِلى العَلياءِ نَهضَتُهُ – وَإِن مَشى فَعَلى الأَعناقِ وَالقِمَمِ
لِلَّهِ أَمٌّ تَـــــلَقَّـــــــــــــــــــــــــتهُ بِراحَتِها – ماذا تَلَقَّت إِلى الدُنيا مِنَ الكَرَمِ
في صِبيَةٍ لِلمَعالي كانَ أَولَعَهُم – بِالمَكرُماتِ وَأَلقاهُم إِلى الدِّيَمِ
كَم غِبتُ عَنهُ وَما غابَت مَكارِمُهُ – وَنِمتُ عَنهُ بِآمالي وَلَم يَنَمِ
لا يُتبِعُ المالَ أَنفاساً مُصاعَدَةً – وَلا يُعيرُ العَطايا زَفرَةَ النَّدَمِ
لم يُعمَّر الشريف الرضِيّ طويلا، فقد توفي وهو ابن 47 سنة عام 406ه، فبكته بغداد، ورثاه أخوه الأكبر الشريف المرتضى بقصيدة عذبة يقول منها:
يا صاحبِي هَل نابَ سَمْعَكَ مِثلُما – قَد نابني نبأٌ أطار نُعاسي
لا أَرتضي منهُ وضوحَ يقينِهِ – وأودُّ أنّي منه في إلباسِ
لا تُنِكرا من فيض دمعِيَ عبرةً – فالدّمعُ خيرُ مساعدٍ ومُواسِ
إنّ الفضائلَ بعد فقدِ محمّدٍ – دَرَسَتْ معالمُها مع الأدراسِ
قُلْ للّذينَ تَشامَتوا في يومِهِ – ما بالرّدى طَرَقَ الفتى من باسِ
إمّا مَضى وَبَقيتمُ مِن بَعدهِ – فلقد مضى صِفْراً من الأدناسِ
عشتم طويلا..