حاولتُ الملاحقةَ قدر استطاعتي منذ لحظة خروجي من بوابة المعتقل، لهثتُ وراء كل تفصيلةٍ تهمّني، عامّةً وخاصّة، كي لا يفلت زمامُ إدراكي للحاصل حولي، وجاءت الإبادةُ على مرمى نظر لتشظّي كلّ احتمالٍ للاستيعاب أو للفهم أو الملاحقة أو حتى البقاء واقفًا لأشاهد فقط، خاصّةً وقد سحقوا كلّ محاولاتنا للفعل والتفاعل مهما كان رمزيًّا.
كنتُ أقولُ لنفسي في كلّ مرّةٍ على حافة السقوط التام: هانت؛ اصمد هذا اليوم فقط، وسأمنحك الحريّة لتسقط فور الخروج من هذا الباب.
خرجتُ واستمرّت الملاحقة والتضييق والحصار والتهديد، بلا حدّ ولا مبرّر، وأُحبطت كلّ خطط التعافي والعلاج التي ظللتُ لسنين طوال أعدّها وأصبّرُ نفسي بها، لأكمل يومًا آخر، واضطررتُ بعد يومين اثنين من خروجي لأعيد تشغيل زرّ “الطواريء” الذي ظلّ فاعلاً طيلة السنوات العشر لاعتقالي، لا فرصة للتعافي، ولا حتى للسقوط، مازال الاشتباكُ قائمًا، ولا سبيل أمامك إلا المواجهة، وما لم يصحّ لك في المعتقل، لا يصحّ خارجه، فأرِني منك خيرًا.
لكن السؤال الآن وقد لجأت السلطة إلى سلاحها الأقبح، والذي يهدد السلامة والحياة في آنٍ، تحريضًا مباشرًا على القتل بفتاوى صبيانها المعمّمين، إلى أيّ حدٍّ ستستمرُّ المهزلة؟ وهل من عاقلٍ يلتفتُ لما أوقعونا فيه من كوارث بدل التفرُّغ لما قاله دومه أو فعلهُ يحيى أو صرّح به حمدين إلى آخر قائمة الجنون والسّفه؟
لا أحبُّ التورّط في عراكات صفريّة أمام خصوم على غير نِحلة البشر كالسلطة الحاكمة في بلادنا، لكن: هل من بديل؟
أصدقكم القولُ ألا بديل مطلقًا، في نظري حتى الآن. ليس الصمت، إذ لن يقبلوا بك إلا جنديًّا في مقتلتهم المستمرّة، ولا التواري، إذ سيستدعونك خصمًا أو مُستخدَمًا عند كلّ حاجة، ولا الصياغات المائعة، إذ لن يكفيهم سوى المنصوص عليه من رسائل السامسونج حرفيًّا، والحلّ الوحيد لإنسانٍ شريف -أو نصف شريف- أن يرفض هذا علانيةً ويقاومه بكلّ قوةٍ ليزيحه أو يفنى دونه.
ليس حبًّا في العراك، ولا اختيارًا للصدام ، إذ لم يبدأ أيٌّ منّا شيئا من هذا، إنّما اضطرارٌ مطلق، تقوم به لتحمي كرامتك وشرفك ووجودك، أو تهلك تفريطًا في أيّهم (ستصبح مسخًا غيرك، لا يشبهك إلا في بعض ملامحك) سواءَ أن كان المقصودُ هو الإنهاك، حتى لا تبقى طاقةٌ لدى أيّنا للمعارضة، أو حتى شيطنةً مستمرّة ودفعًا قسريًّا للصدام لتُرفع التقارير-من ذات الدافع، المختلّ- بأنّ الإفراج عن هؤلاء كان خطئًا، ويجب تصحيحه بإعادة اعتقالهم، وإغلاق الباب في وجه المحشورين في الداخل.
أعترفُ أنّي فقدتُ كلّ طاقةٍ للمواجهة، وضقتُ تمامًا بهذا الجنون، خاصّةً بعد أن طال من لا يد لهم في هذا كلّه، لمجرّد أن فتحوا لي بابًا هنا أو هناك، لكنّني كالعادة لن أفلت يدي وإن رغبتُ في الإفلات، وسأسعى للمقاومة، ولو بطاقاتٍ مستعارة ألملمها من ابتسامات الغرباء وضمّات الأصدقاء وطبطبات الرسائل التي لا تعرفُ أثرها ولا قدرها، دفعًا للسقفِ المطبق على أنفاسي والوطن أو نسفًا له، أو حتى نفيًا للتواطؤ عن نفسي بطول الطريق أو في خطواتي الأخيرة عليه.
إذا كان دوركم إثبات نجاح المعتقل وما حمل من جرائم في الترويض أو الكسر، فدوري إحباط هكذا تصوّرٍ الآن كما دومًا، وسأفعل ما بقيت فيّ حياةٌ على أيّ صورة.