أدب

من هو الطُّغرائي؟.. القصة الكاملة

يوليو 28, 2024

من هو الطُّغرائي؟.. القصة الكاملة

 

أنهى السلاجقة حكمَ البويهيين، عندما دخل طغرل بك السلجوقي بغداد عام 447ه، فبدأ ملكه مسيطرا على العراق وبلاد أخرى شاسعة. كانت الخلافة العباسية موجودة أيام السلاجقة، لكن منصب الخليفة كان رمزيا، فلم تكن لديه صلاحيات تقريبا.. وكذلك كانت رمزيتها في عهد البويهيين قبل السلاجقة، فلما قدم البويهيون من الأهواز وسيطروا على بغداد، خلعوا الخليفة المستكفي ووضعوا مكانه المطيع لله، فكان الحكم بيد البويهيين.. وفي عصر السلاجقة استمر الأمر كما كان: فالحاكم الفعلي هو السلطان السلجوقي، هو الآمر الناهي وهو صاحب الصلاحيات، وهو المدبر لكل شؤون الدولة، أما الخليفة العباسي المسكين فهو حبيس قصره، لا حول له ولا قوة..

 

صاحبنا الطُّغرائي، ولد في هذه الدولة السلجوقية، فكان مولده في أصفهان عام 455 هـ.. والطغرائي لقب عرف به، فهو أبو إسماعيل الحسين بنُ علي بنِ محمد، ويرجع نسبه لأبي الأسود الدؤلي، كما ذكر اللغوي العراقي علي جواد الطاهر رحمه الله في دراسته “الطغرائي حياته وشعره”.

 

وقد عُرف بالطغرائي لأنه تولى مرة مهمة الطُّغراء، وتعني الطُّرة،  وهي التي نسميها في كلامنا المعاصر “الرأسية”، فالوثيقة الرسمية تكون عليها رأسية الحكومة مثلا أو المؤسسة التي صدرت عنها، فكذلك الطغراء هي الرأسية التي كانت تصدر مع الكتب والرسائل حينئذ ويكون عليها شعار الدولة وأوصاف الملك، فالطغرائي عرف بهذا اللقب لأنه تولى مرةً وظيفة الطغراء. وقد عرف بألقاب أخرى، كالأستاذ لأنه كان ضليعا في الكيمياء، ويعتبر من الآباء المؤسسين لهذا العلم وله فيه عدة كتب. وعُرف أيضا بلقب العميد والمنشئ ومؤيد الدين، لكن غلب عليه لقب الطغرائي.

 

المناصب النافذة في الدولة السلجوقية كانت كالتالي: لديك السلطان السلجوقي، الذي هو حاكم الدولة أو الملك، ثم بعده الوزير، الذي له صلاحيات واسعة، بل يكاد يكون الحاكم الفعلي، فمثلا السلطان ألب أرسلان السلجوقي كان وزيره نظام الملك، فنظام الملك هذا كان الشعراء يتمنون لقاءه، لأنه رأس السلطة التنفيذية، إذ لا يوجد فوقه في المرتبة إلا السلطان. بعد الوزير يأتي الرؤساء الذين يعينهم الوزير في الديوان.

 

والطغرائي صاحبنا، كان يمدح أحد هؤلاء الرؤساء كي يحصل على وظيفة في الديوان، ثم أدخله الرئيس الذي مدحه على نظام الملك، الوزيرِ الذي يحكم الدولة فمدح نظام الملك، وكان الطغرائي يتدرج بعد ذلك في المناصب.

 

لكنْ سَعَى به الوشاة مرة حتى جُرّد من منصبه، وصار منبوذا في بغداد حيث كان يعمل، فضاقت عليه بغداد بما رحبت، وساءه ذلك وعبر عن استيائه بلاميته الشهيرة المعروفة بلامية العجم:

 

أصالةُ الرأي صانتْنِي عن الخَطَلِ – وحِلْيَةُ الفضلِ زانتني لدَى العَطَلِ

مجــــدي أخيراً ومجدِي أوّلاً شَرَعٌ – والشمسُ رأْدَ الضُحَى كالشمسِ في الطَّفَلِ

فيمَ الإقامُة بالزوراءِ؟ لا سَكَني – بها ولا ناقتي فيها ولا جَملي

نَاءٍ عن الأهلِ صِفْرُ الكفِّ منفرد – كالسيفِ عُرِّيَ متناهُ عن الخِللِ

فلا صديقَ إليه مشتكَى حزَنِي – ولا أنيسَ إليه منتَهى جذلي

 

رجع الطغرائي بعد ذلك إلى أصفهان، واعتزل الناس وأخذ يؤلف في الكيمياء، وتولى بعد ذلك الطغراء بأصفهان، وعين أيضا بعد ذلك على ديوان الطغراء والإنشاء، بأمر من السلطان محمود بن محمد السلجوقي. لكن الوشاة أيضا لم يزالوا به حتى عُزل من منصبه مرة أخرى..

 

كان للسلطان محمود وزير يسمى أبا طالب السُّمَيْرَمي، وكان السميرمي هذا يكره الطغرائي كرها شديدا، وكان يود لو ظفر به.. ولم تزل به الأيام حتى قبض عليه، وكان لا بد من حجة شعبوية كي يقتله بها، فالطغرائي عالم محبوب له تلامذة كثر، وطار ذكره في الناس ولا تستطيع السلطة قتله دون مبرر، فلفق له السميرَمي هذا تهمة الإلحاد حتى ذاعت تهمته في الناس، ثم قُتل صبرا وقد قارب الستين من عمره، رحمه الله.

 

يحار المرء حين يقرأ شعر الطغرائي، فقد تطرق لجميع الأغراض في شعره، فلا تكاد تجد له بيتا غير عالٍ، إنْ مدح أو تغزل أو رثى أو نصح، فكل شعره درر.

 

ومن مؤلم شعره رثاؤه زوجته، والقصة أنه أحب فتاة، فخالف في أمرها أهله، فلم يزل بها حتى تزوجها بغير رضى من أهله، لكن القدر لم يمهلها فماتت بعد عام من زواجهما، فبكى عليها كثيرا، ورثاها بأشعار مؤلمة. فيصف حالها وهي تفارق الحياة قائلا:

 

ولم أنسَها والموتُ يقبِضُ كفَّها – ويبسُطُها والعينُ ترنُو وتُطْرِقُ

وقد دمعَتْ أجفانُها وكأنها – جَنَى نرجسٍ فيه النَّدى يترقْرَقُ

وحلَّ من المحذورِ ما كنتُ أتَّقِي – وحمّ من المقدورِ ما كنتُ أفْرَقُ

وقيل فِراقٌ لا تلاقِيَ بعدَهُ – ولا زادَ إلّا حسرةٌ وتَحرُّقُ

 

وكذلك يندبها في رائيته المؤلمة:

 

بنفسيَ من غاليتُ فيها بمهجتي – وجاهي وما حازتْ يدايَ من الوَفْرِ

وغايظتُ فيها أهلَ بيتي فكلُّهمْ – بعيدُ الرِّضَا يطوي الضُّلوعَ على غَمْرِ

وفُزْتُ بها من بعدِ يأسٍ وخَيْبَةٍ – كما استخرجَ الغَوَّاصُ لُؤلؤةَ البحرِ

فنافسني المِقدارُ فيها ولم يَدَعْ – سوى مقلةٍ مطروفةٍ ويَدٍ صِفرِ

ألا ليتنا لم نصطحبْ عُمْرَ ليلةٍ – ولم نجتمعْ من قبلِ هذا على قَدْرِ

وما لكما يا مقلتيَّ وللكَرى – ونورُكما قد غاب في ظُلمةِ القبرِ

ويا موتُ ألحقِني بها غيرَ غادرٍ – فإن بقائي بعدَها غايةُ الغَدْرِ

ويا صبر زل عني ذميما وخلني – ولوعةَ وجدي والدموع التي تمري

ولا تعدنّي الأجر عنها فإنها – ألذ وأحلى في فؤادي من الأجر

 

أما بالنسبة لغزل الطُّغرائي، فحدث ولا حرج، حين تسمعه يقع في سمعك وقلبك وقوعا خفيفا كأنه النسيم، اقرأ مثلا قوله:

 

يا حبَّذا نجدٌ وأعراقُ الثَّرى – لُدْنٌ وأنفاسُ النسيمِ رِقَاقُ

وبساكنيهِ إنِ استقَرَّ بنا النَّوى – تُشْفَى النفوسُ وتُمْسَكُ الأرمَاقُ

وأنا الفِداءُ لمن تصرَّمَ حبلُه – عنّي ولم تتصرّمِ الأعلاقُ

قلبي أسيرٌ عنده ويسرُّنِي – أسرُ الهَوى ويسوؤني الإطلاقُ

أصفيتُه ودِّي وأصفاني القِلَى – إنّ المودةَ والقِلَى أرزاقُ

 

وأما في غرض المدح فحدث ولا حرج، ولك أن تنشد رائيته في مدح ملك شاه السلطان السلجوقي:

 

لجلال قدرك تخضع الأقدارُ – وبيمن جدك يحكم المقدارُ

والدهر حيث أمرته لك طائع – والله حيث حللته لك جارُ

والفيلق الجرار، بين يديه من – سطوات بأسك فيلق جرار

ومهابة ممزوجة بمحبة – دانت لها الأشرار والأخيار

وإذا هممت جرى القضاء بما ترى – فكأنك المتحكم المختار

طابت بك الأيام والدنيا بما – فيها وطاب بذكرك الإخبار

شكرا، فقد آتاك ما لم يؤته – أحدا سواك الواحد القهّارُ

 

ظُلِمَ شعر الطغرائي كثيرا وأهمل، فهل سينتبه له العرب ويحيونه في مدارسهم ويُعرّفون به أطفالهم؟

 

عشتم طويلا.

 

شارك