فنون
“يوليا” هي طالبة طب ذكية وجامحة، وفي البداية تتخلى عن دراسة الطب لتتخصص في علم النفس، ومن ثم تجد نفسها راغبة في احتراف التصوير الفوتوغرافي، وأخيرًا تعمل في مكتبة. إنّ شغفها غير محدود، ودعم والديها ثابت، ولذلك هي تتنقّل بين المهن والعلاقات والمحطات الاجتماعية. إنها غير ملتزمة بأي شيء، وغير متأكدة من كل شيء، ما عدا التزامها الثابت تجاه نفسها، رغم أن ذلك الالتزام أيضًا يبدو متذبذبًا يومًا بيوم.
نعم، لقد شاهدنا أفلامًا كثيرة مُشابهة في السابق، حول شابة حريصة على بدء حياتها، وغير مدركة أن “الحياة” كانت تحدث طوال الوقت، ولكن الكاتب والمخرج النرويجي المبدع “يواكيم ترير” شيّد فيلمه بشكل مدهش وساحر وغريب ومبتكر، فقد مزج الكوميديا الرومانسية مع الدراما السوداوية بطريقة ليس لها مثيل.
الفيلم النرويجي “أسوأ شخص في العالم” هو فيلم رائع ومدهش، ومُلهم ومؤثّر، ومضحك ومبكي، وبكل بساطة هو “الحياة” بحد ذاتها. الكاتب والمخرج الكبير “كوينتين تارانتينو” غالبًا ما يكتب نصوص أفلامه بطريقة الفصول كالروايات تمامًا، والمبدع “يواكيم ترير” اتّبع نفس النهج، بتقديم فيلمه في 12 فصلًا مع مقدمة وخاتمة، مع عناوين جذّابة ولاذعة لكل فصل، وقد أبدع في ذلك مع زميله الكاتب “إسكل فوغت”.
“يوليا”، التي هي على مشارف الثلاثين من عمرها، تلتقي بـ “أكسل” في معرض فني، وهو رسام قصص مصورة في بداية الأربعين من عمره. بالرغم من فارق العمر بينهما، إلّا أنها ينجذبان تجاه أحدهما الآخر وتصبح علاقتهما جدّية، ولكن “يوليا” التي لا تحب الالتزام بأي شيء تجد أنها مُحاصرة في هذه العلاقة، وسرعان ما تنجذب للشاب “إيفيند” في حفل زفاف أحد الأصدقاء.
إنه يخطف قلبها لا شعوريًّا، بكونه أحمق نوعًا ما بالمقارنة مع “أكسل” الناجح مهنيًا والمعروف في المجتمع، فـ “إيفيند” هو مجرد موظف يعمل في تحضير القهوة في أحد المقاهي، ويبدو أن “يوليا” لا تحتمل أن يكون شريك حياتها أرفع منها. الفيلم يتتبع مسارات حياتها طوال 4 أعوام.
كم هي غريبة هذه الـ “يوليا”!! إنها متوهّجة ومعقّدة وآسرة بشكل إيجابي، والفنانة “ريناتا راينسفه” جسّدت كل تناقضات “يوليا” وشكوكها وقلقها ولطفها ووحشيتها وإرادتها القوية ومسارها المبعثر. لقد قدّمت “ريناتا راينسفه” أداءً مذهلً جدًّا بشخصية “يوليا”، واستحقّت فوزها بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي. ترشّح الفيلم لنيل جائزتَيْ أوسكار، لأفضل فيلم عالمي وأفضل نص سينمائي أصلي، وذلك في عام 2021.
الفنان “أنديرز دانييلسن لي” كان أسطوريًّا بمعنى الكلمة، إذ أدهشني بأدائه القوي لشخصية “أكسل”، كرجل في بداية الأربعين يجد نفسه يتساءل في لحظةٍ ما عن معنى الحياة وهدفه فيها، والمشهد الذي جمع بينه وبين “يوليا” في المستشفى كان رهيبًا ويلامس المشاعر وبمثابة صفعة لي ولكل مُشاهد، إذ شعرت أنني أنا المقصود من الحوارات اللاذعة والقوية التي دارت بينهما، وقد ابدع “يواكيم ترير” في ذلك المشهد بالتحديد. النجم “هيربرت نوردم” أبدع في أداء شخصية “إيفيند”.
“يوليا” لا تعرف ماذا تريد، لكنها تعلم أنها تريد الاستمرار في أنْ تريد وتريد إلى الأبد، وأنها لا تتوق إلى أي من الأمور الأساسية التي تراود كل البالغين تقريبًا، مثل إنجاب الأطفال. بكل تأكيد، العلاقة الثابتة والمريحة هي أسمى ما يمكن الحصول عليه من شريك حياتك، ولكن “يوليا” تشعر بأن تلك العلاقة ثابتة جدًّا ومريحة جدًّا.
إنّ “يوليا” حسّاسة جدًّا من فكرة أن تصبح الحياة منظّمة بدقّة، وأن تتّخذ مسارًا محدّدًا إلى الأبد. قد يكون هذا الشعور مرتبط بأولئك الأشخاص منا الذين انتهى بهم المطاف في الثلاثين من العمر وهم لا يزالون نسبيًّا في مهب الريح كما كانوا في عمر العشرين. هل هناك شيء خاطئ حولهم؟ هل هم أنانيون ويبحثون دائمًا عن المزيد عندما يكون هناك شيء موثوق به وجيّد، بل رائع، أمامهم مباشرةً؟ أم هل هم يخالفون التقاليد والأعراف لاتخاذ مسار فردي جديد؟
أجاب الفيلم بـ “نعم” و “لا” على كل هذه الأسئلة، من خلال اختيارات “يوليا” في كل ما يتعلق في حياتها. يمكن لـ “يوليا” أن تكون منطوية على نفسها وعنيدة ومحبَطة، مثلنا تمامًا. إنها دائمًا تستمع إلى نفسها، حتى لو كان الصوت الداخلي مرتبكًا في كثير من الأحيان.
رحلة الفيلم، أو إحدى الرحلات، تنطوي مع “يوليا” التي تحتضن خصوصية وجودها. إنها لا ترفض التعلم من التجربة ، لكنها تسمح لنفسها بالارتداد من زواياها الخاصة. ما يصل إلينا في نهاية الفيلم هو الشعور بمعرفة الذات وفهمها، أو بالأحرى نتعلم درسًا مهمًّا حول اضطرابات مرحلة الشباب.
“يوليا” هي شخصية مائية وغير شفافة في آنٍ واحد، وكم كان تجسيدها مستحيلًا لولا إبداع الفنانة “ريناتا راينسفه”. إنها نفس الشخصية المتقلبة من فصل إلى آخر، وتنضج وتتراجع في مراحل متعاقبة، وتظل متعاطفة على الرغم من إرادتها المليئة بالجنون.
هي و”إيفيند” يبدوان لطيفين وظريفين معًا كأي شخصيتين من أفلام المبدعة “نانسي مايرز” والمبدعة الراحلة “نورا إفرون”، لكن تناغمها المتوتّر والغريب مع “أكسل” هو ما يعطي الفيلم لسعته الجميلة والمؤلمة، لا سيما أن “أكسل” يعترف بانعدام الأمن في حياته، ومخاوفه من مستقبل لا يشمله.
أظن أن “يواكيم ترير” كان يتحدث إلينا عبر “أكسل” بشكل مباشر حيث يقول: “لقد نشأت في وقت كانت فيه الثقافة تنتقل عبر الأشياء المحسوسة، ويمكننا العيش بينها”. إنه يتحدث بمشاعر حنين إلى زمن جميل مضى.
بلا منازع، النص السينمائي الذي كتبه “يواكيم ترير” وزميله “إسكل فوغت” هو من أقوى النصوص وأعمقها في الآونة الأخيرة، الرؤية الإخراجية لـ “يواكيم ترير” بواقعيتها المفرطة أضافت الكثير للفيلم. إنه يتناول مواضيع حساسة وصعبة بتوازن ذكي من الإغاظة والعاطفة، حتى عنوان الفيلم “أسوأ شخص في العالم” هو طرفة تهكّمية ومبالغة ساخرة مثل ضحكة مكتومة تبعث على الراحة.
هل حقًّا يوجد “أسوأ شخص في العالم”؟! بالطبع ليست “يوليا”، بالرغم من أنها تخون رجل وتكذب على آخر، لكننا نراها كإنسانة ضعيفة، مثل أي شابة في عمرها خائفة من سوء اختياراتها في الحياة. ربما ينطبق العنوان على “أكسل” بالنسبة لجيل النسويات، مع قصصه المصوّرة والهيمنة الذكورية العنيفة فيها. بكل تأكيد، لا ينطبق العنوان على “إيفيند” الأحمق والساذج.
بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى خاتمة الفيلم الهادئة والمليئة بالأمل، اعتارني شعور جميل ومؤلم، حول الحياة بشكل عام، وحياتي بشكل خاص. قدرة “يواكيم ترير” على التوغل في مشاعري وأحاسيسي بهذه الطريقة أثارت دهشتي وإعجابي، ولا تزال كلمات أغنية النهاية تتأرجح بهدوء في أذني، والتي هي في الأساس عبارة عن قائمة من الكلمات والأفكار المبعثرة، تجعلني أتأمّل كل الجمال في الحياة. أليست الحياة جميلة؟ بالنسبة للبعض منا، نعم، وهذا يكفي.
في أكثر مشاهد الفيلم جمالًا، يتجمّد العالم حول “يوليا” لعدّة دقائق وهي تتجول عبر أوسلو لمقابلة “إيفيند”، الشخص الوحيد غيرها الذي يتحرك في العالم المتجمد والساكن. يداعب النسيم شعر الأشخاص في الشوارع وهي تتخطّاهم، غير منزعجة ومبتهجة. لمرة واحدة فقط، للحظة قصيرة ساحرة، ينتظر الوقتُ “يوليا”، وكأنها تتحكم به وبالعالم كلّه، ويمكنها فعل ما تشاء في أي مكان وفي أي وقت ومع أي شخص، ولم نرها أبدًا بهذه السعادة.