مشاركات
عندما بدأت الحرب الأخيرة على غزة، حاولت بدايةً إخفاء الأمر عن أطفالي، ثم وبعد عدة أيام فوجئت بهم يخبرونني عما يحدث في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة. نقلوا لي الأخبار، وسألوني عن معلومات تاريخية متعلقة بفلسطين عامةً. تفاعلوا مع منشورات التيك توك وأصابهم الغضب كغيرهم فأعادوا النشر وتكلموا عن الحرب وقاطعوا. رسم ابني ذو السبعة أعوام على دفتر الرسم الخاص به، علم فلسطين بألوانه الصحيحة منصوباً على بيت وتحيط به الأشجار. صورتها بهاتفي بالفعل وأرسلتها لوالدي الذي سماها (مزروعون في أرضنا) وبالرغم من أنني كنت أشعر بالفخر فلم أستطع بعد ذلك نشر الصورة على صفحاتي في وسائل التواصل، لم أرِها أحداً، لم أجرؤ.
وشعرت بالخجل الشديد، ففي الوقت الذي يموت فيه أطفالهم، أطفالنا ! هكذا شعرت للمرة الأولى بالتناقض الشديد بين مشاعري تجاه ما يحدث، فهل يحق لنا الشعور بالانتصار لأن قضية غزة وما حدث فيها صارت حديثاً للعالم؟ بل أن فلسطين نالت وأخيراً اعتراف بعض الدول الغربية للمرة الأولى، وبأن جيل التيك توك أصبح قادراً على التمييز بين الضحية وبين الجلاد. وبأن كل تلك المسيرات التي قادها الشباب في جميع أنحاء العالم محاولةً منهم في إيقاف الحرب كانت لا يمكن توقع حدوثها قبل بداية الحرب الأخيرة. وبأن كل تلك الحملات الإعلامية الصهيونية لم تنجح في نيل تعاطف الناس. أم أن كل تلك الأرواح التي أزُهقت، و الحيوات التي أصابها كل أشكال الدمار، تستدعي الحزن ولا شيء غيرهُ؟
كنت في مراتٍ كثيرة أشعر بالغبطة لأن جدي اتخذ قرار مغادرة غزة سابقاً حينما كان والدي يبلغ السادسة من عمره بلا عودة، فكيف كانت ستكون حياتي لو أنني ولدت هناك! ثم أعود سريعاً للشعور بالذنب من أجل كل هؤلاء الأقارب الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم والذين قادتهم أقدارهم لمواجهة هذا النوع من الحياة المحفوف على الدوام بالمخاطر.
أشاهد كل تلك الصور التي ترد من غزة لصمود بطعم الأمل تعددت أشكاله، من محاولة إعمار بسيطة تتلخص بتنظيف وإزالة الركام عن المنازل المنهارة، مروراً بالتكافل الاجتماعي حيث يواسي الجميع بعضهم البعض بكل الطرق الممكنة. وصولاً إلى فيديوهات الريلز للترتيب البسيط ومحاولة الطهي وربما إعطاء الدروس للأطفال من داخل الخيم. فتصيبني عدوى الأمل أيضاً قبل أن أفقدها سريعاً جرّاء ورود أخبار استمرار القصف على المناطق الآمنة وما تحمله من صور ومشاهد بالكاد يستطيع العقل البشري تصديقها.
فتمر أيام لا أشعر فيها بأي رغبة في العمل أو القراءة أو حتى النهوض من السرير. فأتذكر سريعاً أن القوة هي السبيل الوحيد للنجاة في هذا العالم، من هذا العالم ! وبأن ما يحدث في غزة سبباً كافياً والأكثر منطقية لضرورة العمل الجاد على تطوير مجتمعاتنا العربية في جميع المجالات. لا أعلم إن كانت مشاهد المساعدات من الدول العربية المجاورة مدعاة للفخر والاعتزاز بهذا التكاتف والتآخي، أم أن مشاهدة الغزيين المعروفين بعزة النفس والكرامة يتهافتون على شاحنات المساعدات ويقفون بالطابور لساعات للحصول على قطرة ماء أو حفنة من الطحين يثير الشعور بالعجز والقِلّة. هي مشاعر بين هذا وذاك.
أسأل نفسي إن كانت النجاة ستكون في الهروب من التفكير فيما يحدث، فأتابع الأخبار بشكل موجز وسريع خوفاً من أن تعلق صورة في ذهني مسببة لي الكوابيس والأرق وهو ما حدث في الشهور الأولى للحرب. أم أن مواكبة تفاصيل التفاصيل هي أمانة تفرضها الضمائر الحية والعقول اليقظة!
كانت هذه بعض الأفكار التي تحدثنا بها، أصدقائي وأنا في الأسابيع الماضية، عبروا أيضاً عن مشاعر مماثلة تحمل التناقض في كل يوم مع التدفق السريع للأخبار. اضطررنا جميعنا لتغيير الكثير من الأفكار كما اضطررنا مُرغمين على مواجهة مشاعر قوية ربما للمرة الأولى استدعت مننا تغيير أنماط عيشنا، كما أجبرتنا على أن نختبر طُرقاً للتعامل معها مثل التأمل والعبادات الروحية الأخرى وربما ممارسة عادات جديدة.
مرتبطون للغاية مشاعرياً بما يحدث هناك، ففي الوقت الذي يعيش فيه الغزيون اليوم تلو الآخر في محاولة للنجاة المتكررة من أسباب الموت المختلفة، نعيش نحن حالات نفسية تتأرجح بين التشبث بالأمل وبين فقدانهِ بالكامل، وأعود لأسأل نفسي عن قيمة كل ردة فعل ناتجة عن هذه المشاعر المختلطة وعن أهمية التوازن بين ما نشعر به وبين تصرفاتنا اليومية البسيطة، ولا أتوقف عن مقارنة الألم النفسي الذي يشعر به من يعيش خارج غزة وبين الألم النفسي المضاف إليه الألم الجسدي الذي يعيشه الغزيون أنفسهم.
فهل رغبتنا الملحة في انتهاء الحرب هي للتخلص من المشاعر المزعجة مع معرفتنا اليقينية المسبقة أن آثار ما أصابهم سيستمر مدى الحياة، أم لأن استمرار الحرب بالتأكيد يعني المزيد من الفقد والخسائر؟ يبقى عزاؤنا في إيماننا العميق بأن بعد كل ظلام وإن طال إشراقة سَيَعُمّ النور على الجميع جالبا معها العِوَض الجميل.