سياسة

هل نحن في حرب بقاء مع إثيوبيا؟

يوليو 22, 2024

هل نحن في حرب بقاء مع إثيوبيا؟

 

الإجابة ببساطة ودون مواربة نعم. نحن في حرب بقاء مع إثيوبيا. ليس اليوم ولا أمس، بل منذ نبتت فكرة حرمان مصر من شريانها الجاري في أوردتها النابضة.  اثنتا عشرة أكذوبة روجت لها الحكومات المصرية المتعاقبة منذ بدأت تلوح في الأفق أنباء هذا العدوان الأثيوبي على حق مصر الأصيل والتاريخي، مستهينة بعظمة البعد المصري الأفريقي، أو مستكثرة على المصريين التشبث بهبتهم منذ الأزل في نهر النيل.


الخطيئة الكبرى هي التعامل منذ الإعلان عن نية إنشاء السد ثم الملء مرات عدة على أنه أمر واقع لا مفر منه. استمرت الأكاذيب والميوعة، تارة في انحراف مسار المفاوض المصري عن غايته الأسمى، وتارة بالتيه في التفاصيل الفنية. فوقعت مصر بين خيارين أحلاهما مر، الأول أن تستسلم فيضيع النيل وتضيع مصر، والثاني أن تجابه بعيدا عن مسارات المجتمع الدولي السلمي بعد فشله في إيقاف المشروع فتدخل حربا بمفهومها التقليدي مع إثيوبيا في وقت حساس وعلى أرض أكثر حساسية كون السودان الشقيق بين شقي الرحى.


في ثلاث مقالات هذا أولها، أعرض أكاذيب روجت لها السلطات المصرية لتداري إهمالا وتطمس فشلا لا غفران فيهما ولا صفح.


الأكذوبة الأولى التي طالما روجوا لها هي أن المشروع قد لا يترتب عليه ضرر ذو شأن. وهو كلام مرسل دون تفصيل أو توضيح. أولا: من منوط به تحديد معيار الضرر في هذا الصدد؟ وما هي حدوده؟ فمثلا؛ من الأسئلة البديهية: ما مدى رقعة الأرض التي قد تبور بإنشاء هذا السد؟ وكم عدد البشر الذين سيفقدون مصدر دخلهم أو ربما سيُهجرون من أرضهم جراء ذلك؟ النص على هذه العبارة في الاتفاق الإطاري في مارس ٢٠١٥ في حد ذاته كارثي بما يكفي لاعتبار الخطوة التصعيدية من جانب إثيوبيا عملا عدائيا يستوجب التوقف والرد.


الأكذوبة الثانية؛ أن المفاوضات هي السبيل الوحيد للوصول إلى اتفاق بشأن السد الإثيوبي. الأصل في العلاقات بين الدول أنهم إذا ما جلسوا على طاولة مفاوضات على الأرجح لن تكسب من خصمك بالمفاوضات أكثر مما يمكنك كسبه بآليات أخرى كممارسة ضغط اقتصادي أو حصار أو حتى الدخول في حرب نوعية او شاملة. قد يُستثنى من ذلك أن يكون خصمك معدوم أو محدود الكفاءة، أو ليست لديه عقيدة وطنية. فغير ذي عقل من يعتقد أن خصمه سيقدم له هدايا مجانية في التفاوض، كل ما في الأمر أنه سيقدمه لك طوعا إلا إن أيقن أنك تملك أن تأخذه جبرًا.


ولا ضير هنا من الاسترشاد بالمثال الفلسطيني للتدليل على أن دخول أي مفاوضات يستلزم مراجعة لموازين القوى على الأرض. في الحالة الفلسطينية فريق مفاوضات أوسلو قارب على إنهاء العقد الثلاثين من التفاوض. في كل جولة يتفاوضون على أقل من سابقتها. على طرف النقيض يحقق فريق المقاومة الفلسطينية انتصارات ويكسب أرضا في كل جولة أكبر مما تحقق ف سابقتها أمام الخصم. الدرس هنا  أن المفاوض الجيد هو من يمكنه حمل السلاح. التفاوض هو وسيلة أخرى توازي المعركة الحربية لإحراز انتصارات على فض الاشتباك أو العودة لما قبل حدود الاشتباك مثالا، أو حتى على أطر تمهد لاتفاق سلام مؤقت أو طويل. ما يعنينا هنا أن أي اتفاق جائر ومجحف لصاحب حق قابل للخروج عليه، ومن ثم فإن اتفاقية ٢٠١٥ الإطارية ليست دستورا لا يمكن العودة عنه.


الأكذوبة الثالثة؛ هي الوصول لاتفاق ملزم بشأن سنوات الملء الأول والإدارة والتشغيل يحقق هدفنا ويؤمن حقوقنا. إحدى الكوارث التي ارتكبناها في حق أنفسنا إزاء هذا الخطر الوجودي هو اختزالنا للقضية في تفاصيل تقنية فنية وقفزنا على الحقائق الكلية وعلى الثوابت الموروثة لآلاف السنوات. قلتها سابقا في البرلمان: إذا كنا وقعنا على الاتفاق الإطاري في مارس ٢٠١٥ في سياق افتراض حسن النية، فقد أثبتت التجربة غير ذلك. قلت كذلك مرارا أن الوقت يضيّق مساحة الخيارات وقد كان. لم تنفع الحلول المخدرة المسماة منذ ٢٠١٥ باتفاقات تعاونية تكاملية بين دول المصب وإثيوبيا في حل الأزمة الوجودية لمصر، وفي ضوء التعنت الإثيوبي ورفض التفاوض إلا على هوامش الأزمة.


قد نصل بعد كل جولات الملء إلى اتفاق اللحظة الأخيرة، الذي من غير شك سيضع كل الإجحاف على كاهل مصر ولربما يضع السودان هي الأخرى هدفًا أمام الطموح الإثيوبي.


الأكذوبة الرابعة؛ كانت تلوح بأنه إذا لم يتم الملء وفق الجدول الزمني الإثيوبي أو تم في حدود ضيقة، نكون قد حققنا هدفا لا بأس به يمكننا من الجلوس مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات مع إثيوبيا. حاول الإعلام المصري الموجه مرارا الترويج لهذه السردية، إلا أن إثيوبيا نجحت واقعيا ومن ثم في حملاتها الإعلامية في تأطير انتصارها ودحض ادعاءات الآلة الإعلامية المصرية بالانتصار النسبي أو عدم تجرؤ إثيوبيا على تخطي ما سُمي بالخط الأحمر من حيث مرات الملء وحجم التشغيل للسد.


قراءتي أن الجانب الإثيوبي نقلنا نقلتين كارثيتين: الأولى وقعت بمجرد اعتبارنا السد أمرا واقعا، وتنازلنا عن حقوق أصيلة كالإخطار والإذن والإرفاق وغيرها. الثانية وقعت عندما تم بالفعل الملء الأول وتعاملنا مرة أخرة معه باعتباره أمرا واقعا. مجرد الجلوس على طاولة مفاوضات بعد التسليم بهذين الأمرين يعد تنازلا في حد ذاته لا يمكن الرجوع عنه، ببساطة لأنه لم يعد حبرا على ورق المفاوضين، وإنما اقتطاع لشريان الحياة في مصر في منتصف طريقه إلى القلب.


في الحلقتين القادمتين أفند باقي الأكاذيب لنصل إلى نهاية منطقية ستؤول إليها الأوضاع بشأن مياه نهر النيل المصري إن آجلا أو عاجلا.



شارك