أدب
لم يُفوت المتنبي فرصة التأريخ لإيقاع سيف الدولة ببعض القبائل التي تمردت عليه، فمدحه برائيته الخالدة:
طوال قنا تطاعنها قصارُ – وقَطرُك في ندًى ووغًـى بِحَارُ
أعرض لكم في هذا المقال بعض براعته الشعرية واللغوية في هذه القصيدة.
قصة القصيدة أن قبائلَ من عامر بن صعصعة تمردت على سيف الدولة، فطلبهم سيف الدولة وأوقع بهم في عدة مواضع، وأباد كثيرا منهم، وعفا عمن بقي منهم تكرما، فانتهز المتنبي هذه الفرصة وقال:
طِوالُ قنا تُطاعنها قِصارُ – وقَطرُك في نَدًى ووغى بحارُ
القنا: هي الرماح جمع قناة، يقول لسيف الدولة: إن الرماح الطويلة التي يقاتلك الناس بها هي قصيرة بالنسبة لك، فهي فاقدة لأهلية القتال أمام عظمتك.
وقال له “قطرك في ندى ووغى بحار”، أي إن القليل منك في الجود والحرب، هو كثير يشمل كل شيء، فالقطرة منك هي بمثابة البحر.
ثم قال:
وفيك إذا جنى الجاني أناةٌ – تُظَنُّ كرامةً وهي احتقارُ
يقول حين يتمرد المتمردون ويخرجون عن سلطانك، تتأنى في الرد عليهم حتى يظنوا ذلك كرامة لهم عليك، وإنما تأنِّيكَ هو تأني المحتقرِ لهم المستهين بهم.
ثم يقول من هذه القصيدة أيضا:
وأطمعَ عامرَ البُقيا عليها – ونـزّقَها احتمالُك والوقارُ
يقول له: إبقاؤك على قبائل عامر أطمعها في عصيانك، وطيّشهم حِلمُك ووقارك حتى غرهم ذلك وحسبوا أنفسهم خصوما لك.
يقول أيضا من هذه القصيدة:
وكنتَ السيفَ قائمُه لديهم – وفي الأعداء حَدُّك والغِرارُ
فأمست بالبَديّة شفرتاه – وأمسى خلف قائمه الحِيار
يقول كنتَ فيما مضى سيفا لهم على أعدائهم يمسكون بقائمك (القائم هو مقبض السيف)، فيحتمون بك ويهاجمون بك أعداءهم، فلما تمردوا عليك وعصوك صار هذا مآل السيف:
فأمسَت بالبدية شفرتاه – وأمسى خلف قائمه الحِيار
البَديّة والحِيار موضعان لهذه القبائل التي تمردت على سيف الدولة، يقول له: حين تمردت هذه القبائل صارت شفرتا سيفك في البدية، بعد أن ترك السيف الحيار خلفه، أي: بعدما فتك السيف بأهل الحيار تجاوز إلى البدية وصارت شفرتاه تقطعان أهل البدية. في البيت الأول يقول إن هذه القبائل كانت تمسك مقبض السيف تحارب به، فحين تمردت صارت تمسك شفرتي السيف، وهذا كناية عن بطش سيف الدولة بهم. باختصار: يقول المتنبي إن سيف الدولة هو سيف لك تمسك بمقبضه حين تدخل في طاعته، وحين تتمرد وتعصي، ينقلب السيف عليك فتقطّعُك شفرتاه.
يقول المتنبي أيضا في هذه القصيدة ذاكرا استسلام بني كلاب وانقيادهم لسيف الدولة خشيةً مما فعله سيف الدولة بالقبائل الأخرى:
وكان بنو كلاب حيثُ كعبٌ – فخافوا أن يصيروا حيث صاروا
تلقّوا عِزَّ مولاهم بذُلٍّ – وسار إلى بني كعب وساروا
يقول: خافت كلاب من أن يصير لها ما صار لكعب، فاستقبلتْ سيفَ الدولة بعد فتكه بأهل الحيار، وأعلنت الخضوع لسلطانه والتوبة من عصيانه، وخرجت معه لقتال كعب في البَدِيّة.
لما أقبل سيف الدولة على كعب بجيشه ما الذي حصل؟ يقول المتنبي:
فلزَّهُمُ الطرادُ إلى قتالٍ – أحَدُّ سِلاحِهِم فيه الفِرارُ
مضوا متسابقي الأعضاء فيه – لأرؤسهم بأرجلهم عِثارُ
يقول: ألجأهم بطش سيف الدولة إلى قتال كان الفرار أجود أسلحتهم فيه، فلم يطيقوا من دفاع سوى الهروب والانهزام.
ثم حين فروا، صارت أعضاؤهم تتسابق: الرأس يريد أن يسبق الرِّجل، والرجل تريد أن تسبق الرأس، فيعثر الرأس بالرجل فيتدحرج الجسد، وذلك لشدة خوفهم من بطش سيف الدولة، وهذا معنى قوله:
مضوا متسابقي الأعضاء فيه – لأرؤسهم بأرجلهم عثارُ
بعد ذلك يشرح المتنبي آثار هذا الهروب فيقول:
وجاؤا الصحصحانَ بلا سروج – وقد سقط العِمامة والخِمارُ
ألجأهم الفرارُ إلى صحراء الصحصحان، وقد سقطت سروج خيلهم، وعمائمُ رجالهم وخمر نسائهم، ثم قال:
وأُرهِقتِ العذارى مردفاتٍ – وأوطئتِ الأصيبية الصغارُ
العذارى، أرهقهن وأتعبهن الإرداف (هو الركوب خلف الرجال)، فوجدن فيه مشقة كبيرة خلال الفرار، يعني أن الرجال عندما فروا أردفوا العذارى (وضعوهن في الخلف)، أما الصبية فقد وطِئتهم الخيل لصغرهم.
والمعنى أنهم لما هربوا أرادوا إنقاذ العذارى فأردفوهن بسرعة، أما الصبية فقد وطئتهم الخيل وتركتهم لصغرهم.
ما الذي حصل بعد ذلك؟ استغاث الهاربون بتَدْمُـر، فظنوا أنها ستحصنهم من سيف الدولة، فأتاهم جيشه فيها وبطَش بهم، ولهذا يقول المتنبي:
وليس بغير تدمُرَ مستغاثٌ – وتدمُرُ كاسمها لهمُ دمارُ
أرادوا أن يُدِيروا الرأيَ فيها – فصبّحهُم برأي لا يُدار
وجيشٍ كلما حاروا بأرض – وأقبلَ، أقبلتْ فيه تحار
يحُفُّ أغرَّ لا قَوَدٌ عليه – ولا دِيَة تساق ولا اعتذارُ
تريق سيوفُه مُهجَ الأعادي – وكلُّ دم أراقته جُبارُ
الدم الجبار هو الدم الذي لا تُطلَب له دية، تقول: “ذهب دمه جبارا” إذا ذهب هدرا ولم تُطلَب له دية.. يقول إن سيف الدولة إذا قتل ناسا فقد ذهب دمهم جبارا، إذْ لا يستطيع أحد أن يطلب منه الدية.
ثم يقول، واصفا هلاكهم بالعطش بعد فرارهم من سيف الدولة:
إذا فاتوا الرماحَ، تناولتهم – بأرماح من العطش القِفارُ
أي إذا لم تقتلهم رماح سيف الدولة، قتلتهم رماح العطش في الصحراء، ثم يقول مبينا موقفهم منها:
يرون الموت قُدّاما وخلفًا – فيختارون والموتُ اضطرارُ
يقول: خلفهم سيف الدولة، فإذا رجعوا أو بقوا في مكانهم قتلهم جيش سيف الدولة، وأمامهم الصحراء والعطش، إذا عبروها هلكوا عطشا، فإن رجعوا قتلهم سيف الدولة وإن استمروا في الهرب قتلتهم الصحراء، فالموت في الحالين لا مفر منه، وعليهم أن يختاروا الطريقة التي يريدون أن يموتوا بها، فهم مضطرون إلى اتخاذ قرار نهايته -حتما- هي الموت.
ثم لما سلكوا الصحراء وماتوا عطشا قال المتنبي في بيت عجيب:
إذا سلك السماوةَ غيرُ هاد – فقتلاهم لعينيه منارُ
يقول إذا سار أحد في صحراء السماوة وضل الطريق، رأى جثث قتلاهم فاهتدى بها، فصارت جثثهم معالم تهديه إلى غايته، وذلك لكثرة من فني منهم عطشا.
يبين المتنبي بعد ذلك أن سيف الدولة ترك من بقي منهم وعفا عنهم، وفي ذلك يقول:
ولو لم تُبْقِ لم تعش البقايا – وفي الماضي لمن بقي اعتبارُ
يقول له: إن الذين أبقيتَ منهم، سيعتبرون بمن مضى منهم ويعلنون لك الطاعة لأن عاقبة عصيانك والتمرد عليك معروفة. ثم يُـثني على حلم سيف الدولة في نهاية القصيدة حيث يقول:
وأنت أبرُّ من لو عُقَّ أفنى – وأعفى من عقوبته البَوارُ
وأقدر من يُهيِّجُه انتصارٌ – وأحلم من يحلّمه اقتدار
وما في سطوة الأرباب عيب – ولا في ذلة العِبدان عارُ
عشتم طويلا.