تجارب

أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون..

يوليو 21, 2024

أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون..

طيلة فترة فقدي لأطفالي الأربعة، كنت أشعرُ بأنّهم أحياء، حتى إنني كنت أقول، لكل مَنْ يسألني عنهم، أحسّ بقلوبهم تنبض داخل قلبي، حتى جاءني خبر استشهادهم في منتصف فبراير، فشعرتُ بصدمة شديدة، وقلت كيف يحدث هذا؟! لقد كان قلبي عامراً بنبضاتهم، ولأنني أحبّ الله جدّاً في علاقة روحية لا أستطيع أن أشرحها، سألته وأنا في منتهى فجيعتي: هل كنت تعرف يا الله أنّ أولادي كانوا في المنزل الذي قصفه اليهــود؟ هل قصفوا اولادي وانت تعرف أنّهم في المكان؟!


كان المصحف في يدي، وأذكر أنني كنت أقرأ في سورة آل عمران، وانكببتُ من وجعي الثقيل على قراءة القرآن حتّى قرأت آيةً كانت بمثابة إجابة سريعة من الله عز وجلّ على سؤالي: “وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله”، حينها فقط هدأ قلبي، وقلت نعم يا ربّ لقد قُصِفوا بإذنك، وما دام إذنكَ أنت يا حبيبي فأنا راضية، ومنذ ذاك الوقت لم أطرح أي سؤالٍ على الله بخصوص فقدِهم، فإنّي أستحي من سؤال (لماذا حدث كل هذا معي؟) حين أضعه أمام عظمته وحكمته، ولأنّ قَدْرَهُ عظيمٌ، ولأنني أحبّ أن أعطي الله قدره بدأتُ أفكّر كيف يُمكن أن أتعامل مع هذه الفاجعة، كيف يمكنُ لي أن لا أحتضن “يامن وكنان وأوركيدا وكرمل”، كيف لي أن لا أسمع يامن يقول لي أحبك؟ وكيف لن تقول لي أوركيدا “انتِ حلوة”، وكيف لن أسمع ضحكة كنان؟ وكيف لن تتكوّر كرمل في حضني فأحسّ بذلك الدفء المختلف؟


حتّى عاودني ذلك الإحساس الذي كنت أحسّه عند فقداني الاتصال بهم بأنّهم أحياء ولكنهم في الحقيقة آنذاك كانوا شهداء دون أن أعلم، وحين كنتُ أبكي كنت أحسّ بأنّهم لم يموتوا، فأتوقف فجأة عن البكاء وأشعر أنّهم يعيشون لكن عوالمنا مختلفة وأنني محجوبة عنهم بحجاب الدنيا، وكنت أقول لأمّي التي لا تفتأ تبكيهم ليل نهار يكفي يا ماما هم أحياء لم يموتوا، ظللتُ متمسكةً بهذا الأمر إلى حدّ أنني رفضت استقبال التعازي بهم، ولم أكن أردّ على المكالمات حين يتصل بي المحبون والأصدقاء والأقارب، لأنني لا أريد أن أسمع تعازيهم، فأعود مرّةً أخرى إلى دائرة الإحساس بأننّي فقدتهم للأبد.


وكم واساني الحقّ في هذه الآية “ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عن ربّهم يُرزقون”، سبقتها آية “الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين” أي أنّ عدم قتالكم لن يمنع الموت عنكم، وفي هذا قستُ عليه أنّ تغيير مكان أطفالي ما كان ليمنع الموت عنهم حقيقة ثابتة بأنّ آجالهم قُضيَتْ عند ربّ العالمين، وأن تسبق هذه الآية آية الحديث عن أن الشهداء أحياء ليس استباقا اعتباطيا بل تمهيد وتأكيد أنّ الموت نافذ وأنّ الذي كتب عليه الله عز وجل القتل سيُقتَل ولو كان في بروج مشيّدة، وكأنّ الله يقول لنا: لا تحزنوا هم ماتوا بأمري، ولا أحد يموت إلا بإذني، وهؤلاء الأعداء ما هم إلا سبب لنفاذ أمري في الكون، وأنّه لا أحد في العالم يستطيع أن يدرأ الموت عن نفسه، ثم تأتي هذه المواساة الجميلة من ربّ جميل (ولا تحسبنّ) أي حتّى لا يخطر على بالكم هذا الأمر يعني لا تحسبنّ مجرّد حسبانٍ أنّهم ماتوا، وما جاءت لا الناهية إلا لتأكيد نهينا عن فكرة أن الذي يُقتَل في أرض الجهاد هو ميّت، فكيف نُكذّب الله ونصدّق مذيع النشرة الإخبارية في موتهم؟


كلّ الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة جلّهم من الأطفال الأبرياء، قُتلُوا مظلومين مقهورين لكنّ ربي يواسينا بأنّهم أحياء وليس كذلك فقط بل ويُرزَقون، والرزق دليل الحياة، لأنّه في الحديث الشريف عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنّه لن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ رزقها” لذلك الموت هو مرادف انتهاء الرزق، إلا أنّ ربنا يستثني الشهداء من هذه المسألة ويجعل رزقهم مستمرّاً بعد انتقال أرواحهم عنده، والرزق بالمفهوم الإلهي هو مفهوم عظيم رزق معنويّ وماديّ وأكثر من قدرة عقلنا البشريّ على الإدراك.


لذلك أحسّ بهم دائماً يطوفون حولي، وكنت اشتقت مرّة جدّاً لطفلتي أوركيدا جاءتني في الرؤيا وقبّلتها وأحسست بأنّ خدّها دافئ، حتى حين استيقظتُ شعرت بدفء يسري على شفاهي من أثر تلك القُبلة، وأظنني هرعت إلى أمي أقول لها والله أوركيدا على قيد الحياة لقد قبّلتها وقد كان خدّها دافئاً وكأنّ عروق دمها مازالت تتدفق في جسدها بشكلٍ طبيعيّ.


وكلّما حزنت استشعروا ذلك ورأيتهم، ثم أصبحت أشعر بأنّهم مدد من الله عز وجل لي في طريقي في الحياة الدنيا وأنهم ألطاف ورحمات تغمرني، وأنّ الله عز وجل كرّمني بهم أيّما تكريم. حتى حدث معي شيءٌ في منتهى العجب قبل عدّة أيام، كنت أشعر أنّ حرارة الجو عالية جداً، وكان معي طبق بلاستيكي فارغ أحركه على وجهي وجسدي لكي أستطيع النوم، وكأنني غفوت فجأة، فرأيت أطفالي وقد أمسكوا بالطبق منّي وبدؤوا يحرّكونه بقوة لتهويتي فشعرت أنني أكاد أطير من شدّة الهواء عليّ وشعرت بانتعاشٍ لم أشعرْ به في حياتي، ثم جاء كنان وكلّمني وقال لي: (ماما انت كتير حلوة) وأعادها مرّة أخرى وقال: (ماما انتِ كتير ثم بلع ريقه وأكمل حلوة)، وحين صحوت بكيت حبا وشوقاً وامتنانا لله عز وجلّ، وطفت على أبي وأمي واخوتي؛ هل تعلمون أن كنان حيّ، حيّ إلى درجة أنّه بلع ريقه، والله سمعت صوت ريقه حبيبي، كم أنت حلو يا كنان، وظللت أعيد “والله انت يا ماما الحلو”، انت يا كنان الحلو”، كانت أجمل جملة غزل أسمعها في حياتي على الإطلاق تلك يا ماما وكلّ الكلمات بعد عبارتك لا معنى لها، وكلّما اشتقت له سمعتها بصوته وكأنه يقولها الآن (ماما انت كتير حلوة) ولا أنسى صوت ريقك العذب قبل كلمة حلوة..


والسلام على الشهداء والسلام على “يامن وكنان وأوركيدا وكرمل”، السلام على دعائي لهم أن ينفع بهم الله عز وجل أمّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم، فطافت ذكراهم العالم وأحبّهم الناس، حفظوا أسماءهم ووجوههم في كلّ مكان وعلى اختلاف الجنسيات والديانات، وتفتحت روحهم النقيّة حتّى سكبت النور على القلوب والعقول وواسى الله قلب أمّهم المكلوم بمقامهم الرفيع عنده، والحمد لك عليكَ يا الله، والحمد لك على حبك لي، والحمد لك على حبي لك.



شارك

مقالات ذات صلة