في الثالث من يونيو/تموز 2024 وقف وزير “دفاع” الاحتلال بوجهه المتعجرف كعادته٬ قرب حدود قطاع غزة وخلفه دبابة يشير إليها٬ وقال للصحفيين: “الدبابة التي تخرج من معركة رفح جنوب غزة يمكنها الوصول إلى نهر الليطاني جنوب لبنان”. لكن لم يمض على حديث غالانت 10 أيام أو يزيد قليلاً٬ حتى جاء اعتراف خطير وغير مسبوق من جيشه٬ أقر فيه بوجود نقص كبير في عدد الدبابات الإسرائيلية٬ بسبب الاستهدافات الكثيرة في معارك قطاع غزة من قبل المقاومة، وأن العدد الحالي من الدبابات لدى الجيش لا يلبي احتياجات المجهود الحربي.
صحيفتا “هآرتس” و”يديعوت أحرونوت” قالتا إن الجيش الإسرائيلي اعترف ولأول مرة منذ بداية الحرب بفقدانه العديد من الدبابات، بسبب تضررها خلال المعارك٬ وأنه بسبب النقص في عدد الدبابات ونقص المدربين بسبب إصابتهم أو مقتلهم في الحرب، وكذلك نقص الذخيرة٬ فقد أجّل الجيش تجربة لدمج المجندات في تشكيل المدرعات حتى نهاية عام 2025.
هذا ما اعترف به جيش الاحتلال في ردّه أمام المحكمة العليا (أعلى هيئة قضائية في دولة الاحتلال)، على التماس “يطالب بتدريب ضابطات بسلاح المدرعات للاندماج في القوات التي تناور خارج خطوط العدو”. وردّ المدعي العام الإسرائيلي نيابة عن الجيش على الالتماس في المحكمة العليا بالقول: “هناك العديد من المعوقات التي ستحول دون بدء التجربة قريباً”.
ولا شك أن هذا الاعتراف يمثل تحولاً مفصلياً في المعركة ومستقبل هذا السلاح الذي يعد “فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية”٬ لا لأنه اعتراف غير مسبوق منذ بدء المعركة بنجاح طحن المقاومة الفلسطينية كل يوم آليات العدو فقط٬ بل لأنه ينهي “أسطورة الميركافا” التي لطالما تغنت دولة الاحتلال بها وحولتها آلتها الدعائية إلى وحش لا يقهر٬ ولا مثيل لها حول العالم في القوة وأنظمة الحماية النشطة والتدريع الفولاذي.
وهذا الانجاز أو “نقطة الإنكسار” التاريخية لهذه الدبابة٬ يُسجل -بعد معية الله وتوفيقه- لرجال المقاومة الفلسطينية الذين قهروا أسطورة الميركافا بواسطة قاذف مثل “الياسين 105″٬ بطل هذه المعركة دون منازع٬ والذي قد لا تتجاوز تكلفة تصنيعه 200 دولار. وهذه إحدى أكبر الإهانات التي تتعرض لها دولة الاحتلال في هذه المعركة٬ فكيف لقاذف محلي الصنع بهذا الثمن البسيط٬ أن يُخرج دبابة تزن نحو 65 طناً وتصنّف على أنها “الأقوى في العالم” وثمنها ملايين الدولارات عن الخدمة؟
صُممت هذه الدبابة في نهاية سبعينات القرن الماضي٬ وكان أول مشاركة لها في اجتياح لبنان عام 1982 تلك الحرب التي خرجت منها “ميركافا” كدبابة قتال رئيسية وحققت “إنجازات” في بقاع لبنان التي تتميز بتضاريس وعرة٬ حيث صدّرت “إسرائيل” الميركافا بعدها على أنها أفضل دبابة في المعارك، وأنها تتفوق على أي دبابات منافسة أخرى مثل “تي-72” السوفييتية أو غيرها.
وظلت ميركافا منذ استخدامها الأول تتطور ويصنع منها نسخاً جديدة بميزات حماية وقوة نارية لا تملكها أي دبابة أخرى في العالم٬ مثل نظام “تروفي” الذي يعترض الصواريخ قبل وصولها، ونظام التحكم في الحرائق، والرصد الحراري والرؤية الواسعة 360 درجة، والتسليح بمختلف أنواع الذخائر٬ وديناميكية الحركة السريعة رغم ثقل الوزن.
لكن غزة٬ نعم غزة٬ هي أول من أعطب الميركافا وكسر هيبتها٬ ففي 21 نيسان/ أبريل من عام 2001، وفي حي الشجاعية تحديداً٬ تمكن مقاتلون من كتائب القسام (الوحدة 103) من تفجير عبوة ناسفة أرضية محلية الصنع بدبّابة “ميركافا 3” مما أدى إلى اعطابها بعد إصابتها بشكل مباشر، وإصابة عدد من جنود الاحتلال٬ حيث شكلت تلك العملية المصورة التي نفذها عدد من القادة الشهداء القساميين مثل: رامي سعد ووائل عقيلان وتحسين كلخ٬ علامة فارقة بالتطور النوعي العسكري لدى الكتائب٬ وصدمة كبيرة لدى الاحتلال٬ الذي دفعته تلك العملية وما تلاها٬ لإصدار نسخة جديدة من هذه الدبابة٬ وهي (ميركافا 4) وقدمها بمزايا تدريع وحماية نشطة أعلى في عام 2004.
واليوم٬ غزة التي قصّت شريط مشروع القضاء على الميركافا قبل 23 عاماً بعبوة شواظ أولية٬ وصولاً إلى صنعها “نقطة الانكسار” في عدد الدبابات والآليات التي دمرتها للاحتلال بمعركة طوفان الأقصى٬ تثبت أن سر قوتها في مقاتليها٬ وهم أغلى ما تملك٬ وكما قال “أبوعبيدة” في خطابه الذي بث في 14 يناير/كانون الثاني الماضي: “إن أهم صناعة نمتلكها٬ هي صناعة الإنسان الفلسطيني المقاتل الذي لا تقف أي قوة في الأرض أمام إرادته وإصراره”.
وهذا الإنسان المقاتل الذي قد تراه يخرج لملاقاة “الميركافا” مُكبراً حافي القدمين٬ قهر بقاذف “الياسين 105” -الذي لا شك أنه له من اسمه نصيب في القوة والبركة- أعتى دبابة مرت على البشرية٬ ولا شك أنه سيغير مفهوم الحروب البرية بعد هذه المعركة٬ حيث لم تعد “أفضل الدبابات” سلاحاً نوعياً قادر على حسم المعارك على الأرض٬ بل إنها تتحول لعبء إضافي على أصحابها٬ لسهولة استهدافها وإن كانت تملك أثقل الدروع٬ حيث يتفوق المقاتل المتمرّس عليها في الحركة على الأرض٬ ويباغتها بقاذف ترادفي٬ لا يستطيع “نظام الحماية النشط” رصده في تلك الثواني المعدودة التي أحسن ذلك المقاتل اغتنامها.
وفي المحصلة٬ لا بد من أن نختم بـ”نقطة الانكسار”٬ ففي فبراير/شباط 2024 أعلنت كتائب القسام، تدمير أكثر من 1100 آلية إسرائيلية منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وذكر أبوعبيدة حينها٬ أن الآليات المدمرة شملت 962 دبابة و55 ناقلة جند و74 جرافة و3 حفارات و14 مركبة عسكرية.
وحينها٬ كان قد مر على المعركة 4 أشهر فقط٬ واليوم يمر على المعركة 9 أشهر وها نحن ندخل الشهر العاشر٬ لذلك لا شك أن هذا العدد من المدرعات المعطوبة من “ميركافا” وأخواتها قد تضاعف٬ أي أننا أمام 2000 مدرعة (على الأقل) أصبحت خارج الخدمة٬ نصفها أو يزيد ربما من “الميركافا”٬ وهذا يشكل نقطة انكسار حقيقية للعدو الذي تشير تقديرات أمريكية أنه يملك نحو 2200 دبابة٬ وهذا ما يفسر الاعتراف الإسرائيلي الآن بهذه الخيبة العسكرية٬ التي لم تشهد لها دولة الاحتلال مثيلاً من قبل.