سياسة

عبر بوابة الاستثمار: هل سترث الإمارات النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟

يوليو 17, 2024

عبر بوابة الاستثمار: هل سترث الإمارات النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟



في العام 1993، برز الأمير محمد بن زايد آل نهيان المعروف بلقب “صقر الخليج”، قائدًا للقوات المسلحة الإماراتية، قبل أن يتسلم مهامه كوزير للدفاع، ليصبح بمرور الوقت الرجل الأبرز والأقوى في شبه الجزيرة العربية حين عُين وليًا للعهد ولاحقًا رئيسًا للإمارات العربية المتحدة. فكيف تبلورت السياسة الأفريقية للإمارات تحت حكمه؟


للرئيس محمد بن زايد، أضحتْ أفريقيا وسيلة استراتيجية لضمان توسع الخبرات، وكخزان للموارد الغنية وكساحة نفوذ واعدة. حيث تكونت اللبنات الأولى لـ”السياسة الأفريقية” للإمارات قبل نحو 15 عامًا، مستنيرة بالفرص الوافرة التي تزخر بها القارة الأفريقية. هذه السياسة، عُنيتْ أولاً بالمصالح التجارية للإمارات وبتأمين احتياجاتها من الأمن الغذائي، ما دفعت الدولة لتبوء موقع مدينة “البندقية الجديدة للعصر الراهن”، وفق توصيف سيباستيان بوسوا، الدكتور في العلوم السياسية ومؤلف كتاب “الإمارات العربية المتحدة تغزو العالم”.


وفي غضون عقد مضى فحسب، أحدثت الإمارات العربية المتحدة تحولاً جذريًا في موقعها على خارطة النفوذ، فأصبحت قوة بارزة في الساحة الأفريقية، مدفوعةً بمواردها المالية الهائلة. وقد ساهم هذا النفوذ في إحداث خلل في التوازنات، لا سيما في منطقة القرن الأفريقي.


ففي الفترة الممتدة من 2012 إلى 2022، ضخت الإمارات استثمارات تقدر بستين مليار دولار في القارة، موزعة على قطاعات البنية التحتية والطاقة والزراعة والاتصالات والنقل، لترتقي بذلك إلى مصاف الثالث عالميًا في قائمة المستثمرين الأجانب في أفريقيا، متجاوزة والاتحاد الأوروبي ومسبوقةً بالصين والولايات المتحدة. وتُشير الإحصائيات إلى أن 60% من صادرات التعدين الكونغولية، خاصة من جمهورية الكونغو الديمقراطية، موجهة صوب الإمارات والصين.


وتُقدر التجارة غير البترولية بين الإمارات وأفريقيا بنحو 25 مليار دولار، مع توقعات بارتفاع هذا الرقم في السنوات المقبلة نتيجة لسعي الإمارات لتعزيز دورها في القطاعات الرئيسية الأفريقية مثل السياحة، البنية التحتية، البترول والغاز، التعدين، الطاقة، النقل، اللوجستيات، الموانئ، تكنولوجيا المعلومات والهواتف المحمولة.


عمليًا، اتسعت النفوذ الإماراتي في القارة مع تنامي استثمارات شركات إماراتية بارزة مثل شركة مصدر، وموانئ دبي العالمية، ومجموعة أبو ظبي للموانئ، ومجموعة EDGE، وG42 من بين آخرين. لكن قادت بالفعل هذه الطفرة شركة موانئ دبي العالمية، العملاق اللوجستي الذي يتخذ من دبي مركزًا له، التي بدأت رحلتها قبل نصف قرن كمشغل محلي يدير عمليتين برافعتين فقط في ميناء راشد، لتتطور اليوم لتصبح قوة لوجستية عالمية مهيبة.


استراتيجية سلسلة الموانئ


في قلب الاستراتيجية الاقتصادية لدولة الإمارات، ومنذ العام 2006، يكمن التركيز الشديد على امتيازات الموانئ، من خلال شركتين رائدتين هما: موانئ دبي العالمية، التي تملك مقرها في دبي، ومجموعة موانئ أبو ظبي، التي تتخذ من أبو ظبي مركزًا لها.


تمثل شركة موانئ دبي ليس فقط ذراعًا تجارية ناجحة، بل أيضًا أداة قوة جيوسياسية بالغة الأهمية في تحقيق طموحاتها المتزايدة وتتركز أهدافها على القارة السمراء، مستندًا إلى قرون من الروابط الجغرافية العميقة بين شبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا. حيث توظف الشركة أكثر من 20,000 موظف عبر القارة. وتتميز موانئ دبي العالمية بسيطرتها على 87 ميناءً في 40 دولة حول العالم، وتتشارك مع مجموعة موانئ أبوظبي في حضور قوي وتدير مجموعة واسعة من الموانئ والمراكز اللوجستية في 14 دولة أفريقية، وهي: الجزائر، أنجولا، جيبوتي، مصر، موزمبيق، نيجيريا، رواندا، السنغال وجنوب أفريقيا، تنزانيا، الكونغو، غينيا، السودان، بورتلاند، بالإضافة إلى الوجود في دولة أرض الصومال التي أعلنت استقلالها من جانب واحد. وللشركتين السيطرة على أكثر من نصف الموانئ في شرق أفريقيا، بما في ذلك خمسة موانئ في موزمبيق، ما يعزز نفوذها الاستراتيجي على مياه البحر الأحمر والمحيط الهندي.


ومع الاعتماد الكبير لاقتصاد الإمارات على التجارة الخارجية والاستيراد والتصدير، فإن “استراتيجية سلسلة الموانئ” هذه تتيح للإمارات إمكانية الوصول المباشر إلى الأسواق الأفريقية، وتعزز من مكانتها كمركز رئيسي يربط بين أفريقيا وآسيا. كذلك، تعمل دولة الإمارات، التي تواجه تحديات نقص المياه، على توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في الدول المطلة على نهر النيل، خاصة إثيوبيا التي تعد مورداً رئيسياً للحبوب للإمارات. وفي هذا السياق، برز رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد كأحد أقرب حلفاء محمد بن زايد في القرن الأفريقي. وعبر موانئ دبي أصبحت الإمارات، بحسب إلينورا أرديماني، الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط لدى معهد ISPI في إيطاليا، “الدولة الوحيدة التي تملك القدرة على منافسة الصين في شرق وغرب أفريقيا على حد سواء”.


هنا ينبغي التنويه إلى أن الإمارات، تحرص على التنقل برشاقة في فلك القوى العظمى العالمية، وتتحرك تحت سقف أجنداتهم الكبرى، مما يجعل توسع شركة موانئ دبي في الساحة الأفريقية مثار تجاهل ما دام يخدم مصالح تلك القوى. ولذا، يُغضّ الطرف عن النفوذ المتصاعد لموانئ دبي، طالما تتم في بلدان تُتاح فيها فرصة لتمرير أجندات تلك القوى، خلافاً لما يُمكن أن يُسمح به على أراضيهم.


على سبيل المثال، في عام 2006، حين سعت شركة موانئ دبي لتولي إدارة ستة موانئ بحرية رئيسية في الولايات المتحدة الأمريكية، اصطدمت هذه الأحلام بجدار المخاوف الأمنية الأمريكية، رغم الدعم المبدئي من الرئيس جورج بوش الابن. وقد أدت المعارضة القوية من الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس إلى إجبار موانئ دبي على التنازل عن الصفقة لصالح شركة أمريكية.


بينما في جيبوتي، بعد ست سنوات من توقيع شركة موانئ دبي عقدًا في عام 2006 لمدة 30 عامًا لبناء وإدارة محطة دوراليه للحاويات، نشب خلاف حاد بين الطرفين عقب اتهامات بالرشوة لرئيس هيئة الموانئ، مما دفع الحكومة إلى تأميم المحطة وتسليمها إلى منافس صيني. وعلى عكس ما حدث في أمريكا، رفضت المحاكم الغربية، من لندن إلى هونغ كونغ وواشنطن، الحكم لصالح جيبوتي، وبدلاً من ذلك كانت الأحكام دائمًا لصالح الشركة الإماراتية، مُعللة رفضها بعدم صحة دعوى الأمن القومي.


التشابه مع النمط الفرنسي


إنّ الحديث عن خلافة الإمارات للنفوذ الفرنسي ليس وليد الصدفة ولا من قبيل المُبالغة، ففي حقبة الاستعمار، لعبت “شركة إفريقيا الغربية الفرنسية” (Compagnie Française de l’Afrique Occidentale) دورًا محوريًا في التجارة والاستغلال الاقتصادي للمستعمرات الفرنسية في أفريقيا.


وكان ميناء دكار في السنغال، تحت الحكم الفرنسي منذ عام 1857 حتى استقلال السنغال في عام 1960، أحد أهم الموانئ في غرب أفريقيا، حيث استخدمته فرنسا كنقطة تجارية وعسكرية رئيسية، وقامت بتطويره ليصبح مركزًا رئيسيًا لنقل البضائع والموارد من المستعمرات الفرنسية في غرب أفريقيا إلى فرنسا.


وبالمثل، استغل الفرنسيون ميناء أبيدجان في ساحل العاج منذ عام 1893 حتى استقلالها في عام 1960، لتصدير الكاكاو والبن والأخشاب إلى فرنسا. كما كان ميناء بورت سودان في السودان، خلال الحكم الفرنسي البريطاني المشترك للسودان (1899-1956)، نقطة استراتيجية لنقل البضائع والموارد مثل القطن والحبوب، حيث استخدمته فرنسا وبريطانيا لتعزيز نفوذهما في المنطقة. وأيضًا ميناء جيبوتي، الذي كان تحت السيطرة الفرنسية من عام 1888 حتى استقلال جيبوتي في عام 1977، وكان واحدًا من الموانئ الهامة على البحر الأحمر، واستخدمته فرنسا كنقطة استراتيجية للتجارة والنقل العسكري في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي.


وعند النظر في التعاون الإماراتي الفرنسي في القارة الأفريقية، ولا سيما بعد تداعيات الربيع العربي. تبدو أهمية هذا التعاون واضحة بشكل متزايد، خاصةً بعد جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخليجية لعام 2021، حيث بدأت ملامح تعميق التعاون بين فرنسا والإمارات في أفريقيا تتضح. وتتطابق المصالح والرؤى بين الإمارات وفرنسا في أفريقيا جنوب الصحراء في مجموعة من الملفات الرئيسية مثل مكافحة الإرهاب، النفوذ الاقتصادي، والمقاربات السياسية. وفي هذا الإطار، أعلن البلدان عن إعادة صياغة سياساتهما الخارجية تجاه أفريقيا وإطلاق تحالف استراتيجي مع فرنسا في القارة.


وتُعد فرنسا واحدة من أهم الشركاء الدوليين للإمارات، إذ تستضيف ميناء أبو ظبي قاعدة بحرية فرنسية منذ العام 2009، وتتمركز قطع جوية فرنسية في قاعدة الظفرة الجوية خارج العاصمة.


عند التأمل في أجندة الإمارات في أفريقيا، من خلال استحواذها على الموانئ بهذه الصيغة، وفي وقتٍ يشهد تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، يمكن للمرء أن يرى تشابهًا لافتًا بين النفوذ الفرنسي في الماضي والنفوذ الإماراتي الحالي، وكأن الإمارات ترث النفوذ الفرنسي المفقود في إطار إمبريالي حديث.


ولعل ما يزيد من تعقيد هذا المشهد، أن الإمارات ليس لها ماضٍ تاريخي في أفريقيا على غرار فرنسا، وبالتالي فإن الانتقادات المعتادة التي تواجهها فرنسا بسبب ماضيها الاستعماري والعار الأخلاقي المرتبط به، غائبة في حالة الإمارات، مما يجعل نفوذها الناعم أكثر تعقيدًا وصعوبة في التقييم.


تأثير نفوذ الاستثمارات على السياسة الخارجية للبلدان الأفريقية


إنّ التوجهات الاستثمارية للإمارات في مجال الموانئ الأفريقية واستحواذها على الأراضي من خلال القدرات المالية الوفيرة التي تمتلكها، لا تعدو كونها وسيلة لترسيخ نفوذ جيوسياسي عميق في تلك الدول، وأحياناً لتوجيه السياسات الخارجية لتلك الدول بما يخدم المصالح الإماراتية.


للإيضاح، في مايو/أيار من هذا العام، خلال رئاسة موزمبيق لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، طرحت الحكومة السودانية طلبًا لعقد اجتماع لمناقشة دعم الإمارات لقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، حميدتي. ولكن، نظرًا لسيطرة الإمارات على موانئ موزمبيق، فقد تمكنت من حث مندوب موزمبيق على تجاهل هذا الطلب، وهو ما حدث بالفعل.


وبشكل مشابه، في عام 2018، حين قررت السلطات الجيبوتية طرد موانئ دبي العالمية – التي كانت تدير ميناء دوراليه منذ العام 2006 – استنادًا إلى ما اعتبرته “حفاظًا على السيادة الوطنية”.


الدافع وراء هذا التحرك كان مكشوفًا؛ فقد تبيّن أن عبد الرحمن بوريه، الذي كان رئيسًا لهيئة الموانئ والمناطق الحرة من 2003 إلى 2008، كان يتلقى عمولات سرية على مدار السنين مقابل تأمين نفوذ سري للإمارات. وبعد اكتشاف الأمر، فر عبد الرحمن ولجأ إلى دبي.


ختامًا


لجميع ما سبق من الأسباب وغيرها، تتزايد التمردات الأفريقية حاليًا ضد هذا النفوذ المريب للشركة. فقبل عامين، خلال الحملة الرئاسية في كينيا، تحولت محاولات شركة موانئ دبي لإدارة موانئ مومباسا ولامو وكيسومو إلى نقطة سخونة سياسية. حيث اتهم الائتلاف الكيني بقيادة ويليام روتو، الرئيس الحالي، القيادة السابقة للرئيس كينياتا ببيع الأصول الوطنية إلى الإمارات سرًا، مما أدى إلى إفشال الصفقة.


والعام الماضي، واجهت تنزانيا أيضًا احتجاجات وتحركات قضائية ضد مقترح الرئيسة سامية سولوهو حسن لتمكين موانئ دبي من إدارة الموانئ البحرية والداخلية. وفي هذا السياق، الذي صرحت الناشطة ماريا تسيهاي أن الاتفاقية كانت “صادمة” نظرًا لمحتواها الذي يميل بشكل واضح لصالح حكومة دبي وشركتها المملوكة للدولة. ومنذئذٍ بدأت حملات توعية لتسليط الأضواء على مدى تأثير السماح المطلق للشركة باستخدام الموانئ تحت شروطها مما قد يضرّة بالأمن القومي للدول الأفريقية.


شارك