سياسة

صوت غزة منير البرش.. سيرة غير ذاتية

يوليو 14, 2024

صوت غزة منير البرش.. سيرة غير ذاتية

للمقاومة أوجه مختلفة.. أشهر تجلياتها من يقفزون على أسطح “بنايات” الميركافا التي تمتد بطول ٨ أمتار وعرض ٤ أمتار وارتفاع يقارب ٣ أمتار، أشبه ببناية وليست مجرد دبابة. من يتصدون لوقف هذا المد العمراني الشاذ في شوارع غزة هم ملء السمع والبصر.


هناك قصة ضمن أوجه المقاومة، لم تأخد حيزها بما يكفي، لمقاوم  بثوب أبيض، عرفناه في الأيام الأولى للحرب وبالأخص منتصف نوفمبر الماضي، أثناء اقتحام جيش الاحتلال الأول لمستشفى الشفاء. و أكاد أجزم أن الجمهور العربي المهتم بغزة توحد شعوريًا مع هذا الطبيب، بداية من هذا الاقتحام وما تلاه من أحداث حكى عنها وحُكيت عنه.

 

سيحكي التاريخ أن “بنايات الميركافا” وصلت لأبواب مستشفى الشفاء في العاشر من نوفمبر ٢٠٢٣، سيحكي أيضًا عن وحشية الإسرائيليين في التعامل مع المحاصرين داخله وإعدامهم ميدانيا لما يقرب من ١٠٠ شخص في ساحة المستشفى طبقًا لما أعلن عنه حينها. في ظل هذا الجو المرعب الذي اضطر معه جميع الصحفيين للانسحاب من المستشفى خوفًا على حياتهم، شخص واحد قرر أن ينقل للعالم ماذا يحدث داخل المستشفى من خلال هاتفه الصغير القديم.

 

بطل قصتنا الصغيرة الدكتور منير البرش مدير الصحة في غزة، الطبيب الذي يمكن للمشاهد أن يلاحظ ملامح الحرب القاسية على وجهه. في ذلك النهار، نقل في مداخلته الأولى وصول الدبابات الإسرائيلية إلى مداخل المستشفى، قصف عنيف لسطح المستشفى مستهدفًا ألواح الطاقة الشمسية بهدف قطع التيار الكهربائي عن المجمع الطبي، تلى ذلك استهداف كل من يتحرك بالقرب من النوافذ..ومع انتصاف الليل، اتصل أحد ضباط الاحتلال بالدكتور مبلغًا إياه أن الجيش سيقتحم المستشفى بعد قليل، طالبًا منه النزول لمقابلته، البُرش رفض وقال له لن أسلمك رقبتي لتقتلني في الخفاء، إذا أردت أن تقابلني أنا موجود في الأعلى.


وللمفارقة! كان الدكتور البرش حينها على الهواء على الجزيرة مباشر. البرش غير المبالي بالتهديد وغير المكترث أن دقائق فقط تفصله عن مقابلة هذا الشخص، قال للمذيع أيمن عزام: هذا الضابط الساذج يعتقد أنني سأوافق وأنزل له! ومع رغبة البرش في إنهاء المداخلة لورود اتصال جديد من الجيش، سأله عزام كيف نطمئن عليكم؟ أجابه البرش سريعًا: “إذا بقينا أحياء سنتواصل، وإذا استشهدنا نلتقي في الجنة”.


اقتحم الجيش المستشفى، قَتَل واعتقل المئات، وأجبر من تبقى على النزوح نحو الجنوب “الآمن نسبيًا حينها”. صاحبنا لم ينزح للجنوب كما “طُلب منه”، توجه للشمال، أقصى الشمال، والتحق بمستشفى كمال عدوان ليمارس عمله. لم تعطه إسرائيل إلا أيامًا قبل أن تبدأ هجومها على المستشفى. وتكرر ذات المشهد.. غارات محدودة لإرهاب الجرحى والنازحين والفرق الطبية، ثم حصار مطبق، قبل قيام جرافات إسرائيلية بتدمير خيام كان يتواجد بها جرحى في ساحة المستشفى، ثم جرفها بمن فيها تحت الركام، شهود العيان نقلوا أن أصوات صراخ الجرحى كانت تملأ آفاق الساحة أثناء دهس جرافات الاحتلال لأجسادهم المنهكة قبل أن تفارقها أرواحهم.


شهود عيان تحدثوا عن أكثر من ٢٠ جريحًا كانوا على قيد الحياة “دهستهم” الجرافات. صاحبنا كان في ساحة المذبحة، موثقًا الجريمة، بعد أيام قضاها مستصرخا العالم طالبًا النجدة، بلا مجيب! 


بعد خروج مستشفى كمال عدوان عن العمل، توجه البرش إلى مركز طبي في مخيم جباليا لإكمال رسالته. وهو المركز الذي كان ضمن آخر النقاط الطبية العاملة في غزة بعد تدمير الغالبية العظمى من المستشفيات. بعدها بأيام، بدأ الاحتلال اقتحام جباليا، وكما جرت العادة، كان أول ما يريد الجيش تدميره هو المراكز الطبية، وقاموا بحرق المركز الطبي بالفعل قبل أن يعود للعمل “بمعجزة”.


كنتُ محظوظًا وأجريت مقابلة مع الدكتور البرش يومها، وسألتهُ: “لماذا لم تستسلم؟ لماذا لم تنزح جنوبًا عندما طلبوا منك ذلك بعد تدمير الشفاء، وعوضًا عن ذلك توجهتَ لمستشفيات الشمال، الإندونيسي ثم كمال عدوان، قبل أن تصل أخيرًا لهذه النقطة الطبية الصغيرة في جباليا والتي تحاول أن تقوم فيها بمعجزة.. ألا تخاف؟”. البرش أجاب: “قدَرُ الله نافذ، قدَرُ الله فاعل، قدَرُ الله سيصلك أينما كنت، ومرحبًا بريح الجنة وهي إن شاء الله مقبلة”.


بعدها بساعات، جاء الخبر الحزين الذي توقعه الطبيب. قصفت قوات الاحتلال المنزل الذي كان يقيم فيه رفقة عائلته، ما أدى إلى استشهاد ابنته “جِنان” وإصابته في ظهره إصابة بالغة أقعدته عن الحركة. الدكتور الذي ظهر باكيًا على سرير الجرحى فور علمه باستشهاد ابنته، قال إنه لن يتوقف عن العمل.


صوت غزة الفريد تحامَلَ على ألمه بعكازين رغم حاجته لعلاج غير متواجد في الشمال، وبعد أسابيع شهدنا معجزة أخرى، بترميم مستشفى الإندونيسي وإعادته للعمل، قبل أن تحرقه إسرائيل مجددًا، وحاول البرش مع رفاقه إعادة المعجزة في مشافي أخرى مدمرة، وكلما عادت إسرائيل الكَرة، عادوا.


 منذ شهرين تقريبًا، قتل الاحتلال الدكتور عدنان البرش، ابن عم صاحبنا ورئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء، ورفيق رحلته للنزوح من الشفاء إلى كمال عدوان، وكما نعى ابنته، ظهر منير البرش ناعيًا رفيقه عدنان..


جون ماكريه هو الآخر كان طبيبًا وجنديًا كنديًا شارك في الحرب العالمية الأولى، وبعد مقتل صديقه المقرب في إحدى معاركها، كتب قصيدته “في حقول الفلاندرز”، التي تُعتبر دُرَّة تاج ما كُتب عن هذه الحرب، موجهًا حديثه فيها للآخرين، البعيدين، كهؤلاء الذين يستمعون لمداخلات منير البرش من بعيد أيضاً:


تابعوا معركتنا مع العدو
من أيد واهنة.. نرمي الشعلة إليكم
ولتكن لكم.. احملوها عاليًا
وإن خنتم عهدكم معنا
نحن الأموات.. لن يغمض لنا جفن.
 

شارك