سياسة
الانتخابات الفرنسية المبكرة، التي أطلقت شرارتها قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بحل الجمعية الوطنية بعد الهزيمة الوخيمة التي مني بها معسكره في الانتخابات الأوروبية، شهدت تحولاً دراماتيكياً قلب الموازين التقليدية. في الجولة الأولى، التي جرت يوم الثلاثين من يونيو، برز “التجمع الوطني” ممثلاً لليمين المتطرف، وتصدر المشهد بنسبة 33% من الأصوات، متجاوزاً تحالف اليسار الذي يُعرف بالجبهة الشعبية الجديدة، والذي يضم الاشتراكيين واليسار المتطرف والخضر، والذي حصد نحو 28%. أما تحالف “معًا من أجل الجمهورية” بقيادة ماكرون، فقد تراجع إلى المركز الثالث بحصوله على 20% فقط من الأصوات.
لكن الأسبوع التالي للجولة الأولى شهد انقلاباً سياسياً مفاجئاً أعاد تشكيل اللوحة السياسية الفرنسية، حيث انتقلت فرنسا من اليمين إلى اليسار بقوة مفاجئة. تحالف اليسار، المعروف بـ”جبهة الجمهورية” بقيادة جان لوك ميلانشون، الذي ينحدر من أصول مغربية ويتمتع بمواقف إنسانية تجاه سياسات “فرنسا-أفريقيا”، قد تمكن من الفوز بما يقارب 215 مقعدًا من أصل 577 في الجمعية الوطنية. هذا المقال يسعى إلى استكشاف ما قد تحمله العلاقات بين فرنسا وأفريقيا من تطورات في ظل حكومة تقودها القوى اليسارية الفرنسية.
اليسار الفرنسي يقوده جان لوك ميلانشون، الذي تخرج من صفوف الحزب الاشتراكي في 1976، انشق عنه في 2008 ليؤسس تجمعاً يميل أكثر نحو اليسار الراديكالي، أطلق عليه اسم “حزب اليسار”، والذي كان نواة لتأسيس حركة “فرنسا الأبية” في 2016. يُنظر إلى ميلانشون على أنه نفس روحية التجديد في السياسة الفرنسية، لاسيما فيما يخص مواقفه تجاه السياسة الفرنسية في أفريقيا التي لطالما كانت محل نقد.
على سبيل المثال، ففي تصريحاته الأخيرة حول تشاد، انتقد ميلنشون بشدة الدعم الفرنسي لمحمد إدريس ديبي لخلافة والده إدريس ديبي، الذي حكم البلاد لنحو 30 عاماً بقبضة حديدية، على الرغم من أن الدستور التشادي ينص على أن رئيس البرلمان هو من يجب أن يتولى السلطة في حالة وفاة الرئيس. هذا التناقض الصارخ في السياسة الفرنسية، حيث يدعي ماكرون أن فرنسا قد تخلت عن دعم الدكتاتوريات مقابل مصالحها، يظهر ازدواجية في المعايير لا يقبل بها ميلانشون.
ويضيف ميلانشون مستنكرًا هذه السياسات: “أشعر بالاشمئزاز من هذا الموقف الفرنسي، فأفريقيا التي نهبت في القرن التاسع عشر بجرائم العبودية، وسلبت في القرن العشرين بويلات الاستعمار، لا يجب أن تُسلب قرنها الحادي والعشرين. أؤمن بسياسة فرنسية تجاه أفريقيا تحمي الشعوب ومصالحها بدلاً من دعم الطغاة”.
ميلانشون هو أيضاً الصوت الفرنسي النادر الذي انتقد الانقلابات الدستورية في ساحل العاج والقمع في السنغال ضد المعارضة، معبرًا عن مخاوفه من أن صمت فرنسا ومباركتها تعزز النزعات السلطوية.
هذا الموقف القوي من ميلنشون كان كافياً لكي يستقطب اهتمام القيادات الأفريقية الجديدة، مثل عثمان سونكو رئيس الوزراء في السنغال، الذي دعاه إلى داكار في شهر مايو 2024 وتشارك معه الرؤية حول نقد السياسات الفرنسية القديمة تجاه القارة.
وللرجوع في صلب الموضوع: تتشكل رؤية اليسار الفرنسي بقيادة جان لوك ميلنشون وحزب “فرنسا الأبية” حول العلاقات الفرنسية الأفريقية بناءً على إعادة تقييم شامل للعناصر الأساسية التي شكلت تاريخياً هذه العلاقات. يعتبر ميلنشون أن هناك خمس قضايا محورية يجب معالجتها لتحقيق تحول جذري في سياسة فرنسا تجاه أفريقيا:
الملاحظ أن هذه النقاط تعكس عزم اليسار الفرنسي على إحداث تحول جذري في السياسة الخارجية الفرنسية تجاه أفريقيا، مع التركيز على دعم التنمية المستدامة والتحولات الديمقراطية في القارة، بما يُعزز من العلاقات المستقبلية على أسس الاحترام المتبادل والشراكة العادلة. على الأقل، هكذا تبدو على الورق وهذه هي التي تُعرض في البرامج الانتخابية بخصوص السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا في منظور اليسار.
بيد أنه في السياسة الواقعية (RealPolitik) تجدر الإشارة إلى أن النظم السياسية في فرنسا، سواء أكانت يمينية، يسارية، أو مركزية، تعمل جميعها ضمن إطار سياسي موحد يخدم الأجندات الخارجية لفرنسا. الظن بأن اليسار الفرنسي سيفرض ضغوطا على كبريات الشركات الفرنسية مثل مجموعة بولوري المسيطرة على اللوجستيات المينائية، أو شركة توتال وأورانو للطاقة، اللتين تستغلان أفريقيا الناطقة بالفرنسية، هو مجرد أمل يوتوبي. خاصةً أن اليسار الفرنسي المعاصر قد ابتعد عن دور اليسار التقليدي الذي كان يناضل ضد جبروت الرأسمالية والشركات العابرة للقوميات والمادية الغربية الصرفة، وتركيزه الأخير على قيم تخص الجندر، حقوق المثليين، والسياسات البيئية، كما تجلى في محاضرة ميلانشون بداكار أمام الطلبة، هذا بجانب التناقضات اليسارية.
من الأمثلة البارزة على التدخل الإمبريالي الفرنسي في أفريقيا خلال الجمهورية الخامسة، والتي شهدتها فترات حكم الرؤساء اليساريين: في عهد فرانسوا ميتران، الذي حكم من 1981 إلى 1995 ويعتبر من اليسار، وصف بأنه سعى لإنهاء الاستعمار وتحسين العلاقات مع المستعمرات الأفريقية السابقة باتباع سياسة أكثر عدالة. ومع ذلك، خلال فترة حكمه، شهدت فرنسا تدخلًا عسكريًا في تشاد عام 1983، حيث دعمت الرئيس التشادي إدريس ديبي ضد المتمردين المدعومين من ليبيا، مما يثبت استمرار فرنسا في دعم دكتاتور في مواجهة تمرد شعبي إذا كان ذلك يتوافق مع مصالحها.
وفي عهد فرانسوا هولاند، الذي حكم من 2012 إلى 2017، عرفت فترة رئاسته أيضًا تدخلات عسكرية في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى. أطلق هولاند عملية سيرفال في مالي عام 2013 لدعم الحكومة ضد الجماعات الإسلامية، واستغل ذلك لإقامة قواعد عسكرية دائمة في مالي والنيجر، مما يظهر أن التدخل كان يهدف إلى تعزيز النفوذ الفرنسي تحت ستار المساعدة. وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، تدخلت فرنسا عسكريًا وانسحبت عندما رفض الرئيس أركانج تواديرا الخضوع لإملاءات فرنسا، مما دفعه للتوجه إلى روسيا في خطوة غير مسبوقة بين الدول التي كانت مستعمرات فرنسية سابقة.
أمثلة تُبين كيف أن الرؤساء اليساريين في الجمهورية الفرنسية الخامسة لم يختلفوا كثيرًا عن نظرائهم من الأطياف الأخرى في تطبيق سياسات تتماشى مع الأهداف الفرنسية، رغم خطاباتهم المناهضة للإمبريالية أثناء الحملات الانتخابية.
كما أنه وعلى صعيد تحليلي محض، يتعين علينا إدراك حقيقة أن العلاقات بين فرنسا والدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية تُنظّم بصورة تقليدية عبر قنوات ثنائية، ضمن إطار المنظمة الدولية للفرنكوفونية والتفاعلات بين الدول والاتحاد الأوروبي. وتشمل هذه التفاعلات بصورة خاصة منظمات التكامل الأفريقية مثل الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” والجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا، وغيرها.
وتطورت تلك العلاقات بمرور الزمن إلى درجة كبيرة بحيث أن تغيير السلطة إلى اليسار في فرنسا، مهما كان حجمه، قد لا يحدث تأثيراً جذرياً على الحياة السياسية أو الاقتصادية في الدول الأفريقية، طالما أن اليسار لا يسيطر على الرئاسة.
وبالنظر إلى النظام السياسي شبه الرئاسي في فرنسا، -حتى مع وصول اليسار إلى السلطة- يحتفظ الرئيس الفرنسي، وفي الحالة الراهنة إيمانويل ماكرون، بالسيطرة الرئيسية على السياسة الخارجية، وهذا يحد بشكل كبير من تأثير التغيرات في التكوين البرلماني على السياسات الخارجية.
وفي هذا الصدد، من الجدير بالذكر أنه -راهنًا- يبقى اليسار أقلية في البرلمان الأوروبي ، حيث يهيمن اليمين الجمهوري والكلاسيكي. وعلى هذا الأساس، لا يتوقع أن تحدث تغييرات جوهرية، فالبرلمان يتعامل مع منظمات مثل الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا. لذلك، في تقديري، لن يمثل وصول اليسار إلى السلطة تغييراً ملموساً في الاتجاه السياسي الفرنسي نحو أفريقيا ما لم يتحكم اليسار في كل من البرلمان والرئاسة الفرنسيين.
لكن على صعيدٍ آخر، يمكن لليسار، إذا نجح في تأثير سياسة الشتات الأفريقي في فرنسا، أن يُحدث تغييرًا في تفاعلات فرنسا مع الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية. فالاستثمارات التي يقدمها المغتربون تشكل جزءا كبيرًا من الاقتصادات المعنية، وفي النواتج المحلية الإجمالية لبلدانهم، وأي سياسة تُسّهل حياة المغتربين الأفارقة في فرنسا يمكن أن تؤثر إيجابًا على هذه الدول. وهذا الأمل من أن يُسهم وصول اليسار إلى سدة الحكم في تحسين ظروفهم، هو ما حفزهم على التوحد والتلاحم خلف جدران اليسار، مستغلين سياسات التوعية التي نُظمت خلال الجولة الثانية من الانتخابات. ففي مناطقهم والمدن التي تعج بالمهاجرين، كثفوا جهودهم للتصويت لليسار، رافضين بذلك أطروحات اليمين التي هددت بإعادتهم إلى أوطانهم وفرض المزيد من القيود عليهم.