سياسة
عِشتُ مع المعتقلين وفي المعتقلات أكثر مما عشتُ في أيّ مكانٍ آخر أو صاحبتُ ناساً أُخر، والمآسي الإنسانيّة التي شهدتها وسمعتها من أطرافها تشيّبُ وتفطر القلب، لكنّها تحدث بعاديّة ورتابةٍ كجزءٍ من روتين اليوم السجنيّ.
يحقُّ لأهل المعتقل ما لا يحقّ لغيرهم، بمن فيهم المعتقل ذاته؛ تلك هي القاعدة التي انطلقنا منها في كلّ مرّة ناقشنا الأمر منذ وعينا، والظرف الذي يعتصر هذا البلد المسكين ويحتمله هؤلاء قبل الكلّ في تصامتِ العاجز وتجاهل المحيط السياسي والشعبي الأشدّ عجزًا أو تعاجزًا.
ومبادرة أهالي السجناء السياسيين التي انطلقت قبل أيّام، واحدٌ مما يجوز لهم، ولا يجوز لغيرهم إلا التضامن معهم والدعم لموقفهم، إذ إنّ الأصل مواجهةُ السلطة بجريمتها (اختطافًا وتلفيقًا وتركًا لا نهائيًّا في قعر العدم) والضغط للإفراج عنهم، تصحيحًا للخطأ لا توسّلاً ولا مساومة، والسعي للتخلّص من الأدوات التي تسمح بمثل هذه الجرائم الجماعيّة بحق الوطن ومواطنيه تخلّصًا قادمًا من المظلمة الجماعيّة التي تبتلع الجميع بلا استثناء أو تمييز.
يوجعُ القلب أن يطرح المظلومون أصحاب الحقوق التي لا تسقط بالتقادم على الظالمين مبادرةً كتلك، يوجعُ القلب أننا من يتسوّل حياة أبنائنا وبناتنا ونقدّم “الضمانات” لأجل أن يتحقق ذلك، إدراكاً من الجميع أن التسوّل وحده لا يعني الحصول على المراد بالضرورة.
لكن ما يوجع القلب أكثر؛ ألا تلتفت السلطةُ لمثل هذا النداء، على ما فيه من الإقرار لها بكلّ الحقوق منحًا ومنعًا، بل والأدهى تجاهلُها من قطاعٍ عريضٍ من السياسيين والبرلمانيين والأحزاب والشخصيات العامة التي تراجعت للوراء ألف خطوةٍ عما لا يغضب السلطة، رغم أنّ صياغة المبادرة تمنح هؤلاء وغيرهم المساحة للتضامن والمشاركة دون أن يتورّطوا فيما لا يستعدّون له، أو يمكنهم دفع ثمنه.
فكلّ ما يطرحه هؤلاء المكلومين في أولادهم وبناتهم، الإفراج عن ذويهم بأي شروط ترضي الدولة وبأي آليات مناسبة كلجنة العفو أو غيرها مع إبداء استعدادهم للتوقيع على أيّ شروط كالبعد عن السياسة أو الكتابة والنشر على وسائل التواصل الاجتماعي أو غير ذلك مما يُرضي الأجهزة المعنيّة بالملف، فقط مقابل أن يتم الإفراج عن أبنائهم وبناتهم بعناوين معروفة مع المتابعة الدورية التي لا تعيق سير حياتهم، حتى يتمكنوا من استعادة أعمارهم التي توقفت منذ سنوات طويلة والعودة إلى أسرهم التي تضررت بشدة وانهارت جراء سنين السجن.
تأخّرتُ كثيراً عن التفاعل مع هذه المبادرة تجنيباً لهم وصْمتَنا عند سفهاء الأجهزة الذين يحترفون تعطيل “المراكب السايرة” بربطها بنا. أيُّ مختلٍّ يتعامل مع هذا الجنون بجديّة؟ وقبلها لأتمكّن من نقل تضامنٍ كهذا للعلن، على ما فيه من مواجهتنا جميعًا بما وصلوا له بعد أكثر من عقدٍ في ذات المحرقة التي لم تخمد بعد، بل وينضمّ إليها حطبٌ جديدٌ من أعمار شبابنا وبناتنا كل يومٍ بأيّ تهمةٍ أو حتى بلا تهم.
عمرٌ كامل من التلفيق والخطف والإخفاء والتعذيب والحصار والتهديد والتدوير والرعب الكامل، يأكلُ المعتقل كما يأكل أهله وكلّ الوطن، ويهدمُ ما بنوه بمشقّة من بيوتٍ وحيوات دون أفقٍ مهما بعُدَ لانتهاء مأساة عشرات الآلاف، الذين لا يُنظر إليهم إلا حين الاحتياج لـ “لقطة” تمهيدًا لقرارٍ أو تشويشًا على كارثة جديدة.
أدعم مبادرة أهالي السجناء السياسيين في مصر، وأدعوا السلطة للالتفات ولو مرّة تجريدًا للأمر عن كلّ مكايدة أو مساومة، لتنتهي المأساة. تأخّر القرار جدًا، لكن لعلها اللحظة المناسبة.