Blog

عام يمضي، وعقول تبنى!

ديسمبر 28, 2025

عام يمضي، وعقول تبنى!

الكاتب: عماد الدين الغزالي

ورقة أخرى تسقط من رزنامة العمر، ونحن نرقبها؛ بعضنا يودعها بلهفة، وبعضنا بخوف، لكن الجميع يتغير. كان عام 2025 غربالًا كبيرًا هزّ العالم بعنف، فسقط من سقط، وثبت من ثبت. عام وضعنا وجهًا لوجه أمام حقيقة أنفسنا، قبل أن يضعنا أمام شاشاتنا.

كان عامًا غريبًا؛ رأينا فيه الذكاء الاصطناعي يخرج من كونه خادمًا ليزاحم السيد في مقعده، والاقتصاد يترنح كسكير فقد بوصلته، وحياتنا تتحوّل إلى ركض مجنون نلهث فيه ولا نصل. والسؤال الذي يؤرقني –ويجب أن يؤرقك– في زحمة هذا الطوفان الرقمي: أين موقعك من الإعراب؟

هل كنت فاعلًا طوّر عقله وفهم اللعبة؟ أم رضيت أن تكون مفعولًا به يصفق للآلة وهي تسرق دوره؟

الآلة مهما عظمت تبقى فرعًا، والعقل هو الأصل، ولا يعلو الفرع على أصله إلا إذا مات الجذر. واليوم، من لا يقرأ ما خلف السطور، ولا يطوّر أدواته، سيجد نفسه خارج النص تمامًا.

لصوص الانتباه

أعطتنا التقنية الكثير، نعم، لكنّها سرقت الأغلى: السكينة والتركيز. هذه الشاشات التي صارت امتدادا لأيدينا، وتلك المقاطع القصيرة التي نلتهمها بنهم، ليست مجرّد تسلية؛ إنّها مخدرات رقمية صممت بهندسة خبيثة لتجعلنا عبيدًا للحظة.

أصابنا الوهن الفكري؛ مللنا القراءة، وضاق صدرنا بالصبر، وصار البحث عن المتعة السريعة –ولو كانت تافهة– أسهل من مواجهة العمق. فلا تبيع عقلك بإعجاب، ولا ترهن وقتك لخوارزمية لا تراك إلا رقمًا في حساباتها.

البيوت الباردة

في زوايا هذا العالم الجديد الموحش، ظهرت وحوش تقتات على القلوب الجائعة. لم ينتشر الابتزاز الإلكتروني عبثًا؛ لقد انتشر لأنّ بيوتنا صارت باردة. تلك الفتاة التي سلمت أسرارها لذئبٍ خلف شاشة لم تفعل ذلك إلا لأنّها لم تجد أذنًا تسمعها في غرفتها، وذاك الشاب الذي انزلق كان يبحث عن كتفٍ يستند إليه، فلم يجد إلا رفاق السوء.

الدرس القاسي هذا العام أنّ الجوع العاطفي أشد فتكاً من الجوع المادي. فابنتك التي تمتلئ أذناها بكلمات الحب والتقدير من أبيها، لن تقتات من قمامة العلاقات في الشارع. التربية، يا أخي، ليست أوامر عسكرية؛ التربية قلوب تحتضن قبل أن تؤدب.

درس من غزّة

وبعيدًا عن ضجيج التكنولوجيا، جاءنا الدرس الأبلغ من هناك، من تحت ركام الحصار. علمونا معنى الذكاء الإنساني في أبهى صوره. هل رأيت كيف خدعوا العدو واليأس معًا؟ حين خرجوا بمظاهرة ظنّها العدو انكسارًا، وصفق لها فرحًا، ليكتشف متأخرًا أنّها كانت غطاء ذكيًا لنقل العتاد وترتيب الصفوف تحت أنفه.

يا له من عقلٍ لا يستسلم. علمونا أنّ الحياة لا تفتح أبوابها للواقفين على العتبات، بل لمن يجرؤ على خلع الباب، وأنّك تستطيع أن تصنع من صراخ خصمك سترًا لنجاحك.

مظاهرتك الخاصة

والآن، ماذا عنك؟ متى ستقوم بخدعتك الذكية ضد كسلك؟ متى ستوهم يأسك أنّك استسلمت، بينما أنت تحفر نفقًا نحو النور في الخفاء؟ انقل أمتعتك، أحلامك، ومشاريعك المؤجلة من منطقة التمني إلى منطقة العمل. لا تنتظر الظروف؛ فالظروف شماعة العاجزين، أمّا الأقوياء فيصنعون ظروفهم.

زبدة القول

قد تكون جمعت مالًا أو نلت منصبًا، وهذا خير، لكنّ المصيبة كلّ المصيبة أن تبني دنياك وتهدم آخرتك، فتنتقل غدًا من عمران إلى خراب. النجاح الحقيقي أن تمشي في هذا العصر بعينين: عين ذكية على الدنيا وأدواتها لتملك القوة، وعين خاشعة على السماء لتضمن النجاة.

امضِ، فالطريق لا يتسع إلا للصادقين.

شارك

مقالات ذات صلة