مدونات
ملك محمد أكرم العطار
كانت سوريا جسداً معلّقاً على مشانق الظل، شهقة طويلة احتبست في حنجرة الزمن لعقد من الدموع، دمشق العتيقة تحمل أسرارها كحبات المسك في كفّ أعمى، وأطفال حلب يسألون عن ألوان الشمس التي نسجوها من رماد القنابل. وعلماء الشام مُراقبون مكبٌلون، والآباء من أبنائهم المعتقلين محرومون، كلُّ الأفراح كانت مطعونة؛ بالفقدان، بالظلم، بالتشبيح، وبكلّ ألوان الدماء.
ثمّ ماذا عن كهوف صيدنايا، حيث كان الموت يُصنع على مقاس الأحياء، كانت الجدران تبكي عظاماً بلا أسماء، والظلام يلد ظلاماً.
هناك، في أحشاء الجبل الأصمّ، بات الصمت لغة والموت رفيقاً، وباتت القطرة المتساقطة من صدى السقف كوناً كاملاً للعطشى. كانت الأنفاس تُعدّ واحدة واحدة، كخرز مسبحة انقطع خيطها، والزمن توقف عند حافة صرخة لم تخرج.
صيدنايا.. ليست سجناً بل رحم مقلوب يلد الموتى، وكتاب من لحم دونه القيد قصص لم تُرو، لقد كانوا ذئابَ الجَورِ يقتاتون على تعذيب البشر فيه!؛ ويحتسون دموعهم بنشوة، لقد تجاوزوا الوحشية والحيوانية، صار ضميرهم ثُعباناً، و قلبهم شيطاناً.
لكن هل يُغلق النور بكفّ من حديد؟ هل تُسجن النسمة في قفص؟ لقد انكسر السحر، واهتزت أقدام الجلادين على أرض لم تعد تطيقهم. سمعنا دوي السقوط كرعدٍ طويل انتظرته أذن الأرض منذ أول دمعة.
سمعناه من حلب إلى درعا، من دجلة إلى الفرات، صوت التحرير يخرج من حنجرة الجرح، صوت الحرية الوليدة الذي اختلط بفرح السماوات، كان صوت أهل الأرض يتعالى بقلوبهم لا بألسنتهم: الله أكبر، الله أكبر، سقط هبل، سقط الطاغية بشار الأسد.
كُنّا قد خرجنا كالنباتات العمياء تبحث عن الشمس، خطواتنا مترددة على أرضٍ كانت بالأمس ألغاماً، عيوننا لا تصدق أنّ القيود قد صارت ذاكرة، أنّ الخوف قد انزوى كشبحٍ في ضوء النهار.
رأينا دمشق تخلع أثواب الحداد وتلبس حلة العروس، رأينا الياسمين يعود إلى شرفات البيوت كطيورٍ بيضاء حُطّت بعد سفرٍ طويل. بكينا.. لا من ألم بل من غصة الفرح الكبيرة التي لا تسعها قلوب أنهكها الانتظار.
في الساحات، اختلطت دموع الشيوخ بضحكات الأطفال، تلامست الأيدي التي فرقها السجن سنوات، التقت الروح بالروح، عانقت الأغصان جزوعها، طارت دمشق بثوب الياسمين، تمايست الغوطة بأشجارها، زغردت عصافير حِمص، هاجَ بحرُ اللاذقية، ابتسمت نواعير حماه، صرخت أركان حلب، اجتمعت الناس على فرحة النصر وكلمة “الله أكبر والحمد لله” حتى الياسمين والنارنج كان يزحفُ بين الحشود مبتهجاً، ها هي الأصوات عادت إلى أصحابها بعد أن سرقتها جدران الصمت.
“الله أكبر”.. لم تكن مجرّد هتاف، بل كانت زفير أمة خرج من أعماق التاريخ، اعترافاً بالنعمة التي أشرقت بعد طول ظلام، شكرًا للذي يحيي العظام وهي رميم. اليوم، ونحن نجني ثمار الحرية، نعلم أنّ النعمة لا تُقاس بذهب ولا سلطان، بل بنوم الياسمين في حضن أوراقه، بأن يرفع السوريُّ رأسه إلى سماء بلده دون إذن، بأن يروي لأحفاده حكاية صيدنايا وقد صارت مجرّد ذكرى في كتاب.
لقد منّ الله علينا فك الأسر، وردّ الأعزاء، وأعاد للإنسان إنسانيته المغتصبة. سوريا اليوم وطن يعيد اكتشاف نبضه، جسد يلملم جراحه ويشرع في البناء، قصة ترويها الأجيال القادمة كأسطورةٍ تحكي كيف ينتصر الحق على الباطل، وكيف تبعث الحياة من بين العظام. حمداً لله الذي جعل لكلّ ظلمٍ نهاية، ولكلّ ليلٍ صباح، ولكلّ شعبٍ كرامة تنتظر التحقيق.


