آراء

لوحات وألوان من عالم أورهان باموق

لوحات وألوان من عالم أورهان باموق

قدَّم أورهان باموق (الروائي التركي الحاصل على جائزة نوبل) معالجة لقضايا القراءة والكتابة في عدة كتب، من ضِمنها كتاب “ألوان أخرى” الصادر عن دار الشروق، الذي تناول فيه الحديث عن بعض الروائيين مثل فيكتور هوجو، ودستويفسكي، وروايات الكاتب الروسي نابوكوف، وألبير كامو، وماريو فارجاس يوسا، ويتحدث فيه عن روايته “اسمي أحمر“.

الروائي الساذج والروائي الحساس

أورهان باموق قارئ منتظم للأدب ولفن الرواية، فهو لكي يشعر بالسعادة يتناول جرعته اليومية من قراءة الأدب، وبهذا لا يختلف عن المريض الذي لا بدّ أن يتناول ملعقة الدواء كلّ يوم. وعندما عرف باموق، وهو طفل، أنّ مرضى السكّر يحتاجون إلى حقنة كلّ يوم، شعر بالأسى من أجلهم كما قد يشعر أيّ إنسان، لكنّه يتشابه معهم لأنّه يحتاج إلى قراءة الأدب كلّ يوم وإلا فسيفسد مزاجه ويتعكر جوّه.

في كتابه الصادر عن دار الجمل بعنوان “الروائي الساذج والروائي الحساس“، الذي يتكون من محاضرات ألقاها عن فن الرواية في جامعة هارفارد عام 2009، يحكي أنّه يقرأ الروايات منذ أربعين عامًا، وخلال فترة مُعيَّنة من شبابه سخَّر نفسه تمامًا لقراءة الرواية، من سن الثامنة عشرة إلى سن الثلاثين. ويصف لنا باموق كيف يتبدل عالمه الواقعي إلى عالم مِن صُنع الرواية وهو يستمر في القراءة صفحة بعد صفحة منفصلًا عن عالمه الواقعي إلى عالمٍ آخر مِن صُنع القصة والحكاية، ثمّ يستمر في وصف كيف تعمل عقولنا بكلّ نشاط كلّما تعمقنا في قراءة الرواية.

عنوان كتاب باموق يستمد اسمه من مقالة لفريدريك شيلر بعنوان “عن الشعر الساذج والحساس“، ويقدّم باموق تفريقًا بين نوعين من مؤلفي الروايات، الساذج والحساس، وهذا التفريق يشمل القراء أيضًا، فالنوع الساذج أولئك الذين لا يشغلون أنفسهم بالجوانب الفنية لكتابة وقراءة الرواية، والنوع الحساس لوصف الإحساس المعاكس تمامًا، فهُم القراء والكتاب المفتونون بتصنُّع النصّ وعجزه عن تحقيق الواقع، والذين يولون اهتمامًا كبيرًا للأساليب التي يستخدمونها في كتابة الروايات والطريقة التي تعمل بها عقولنا عندما نقرأ. ويرى باموق أنّ على الروائي أن يجمع بين السذاجة والحساسية في نفس الوقت. والكتاب يضم تحليلًا لباموق لكثيرٍ من قضايا فن الرواية، مثل: هل تُعتبر الرواية وجهًا من وجوه السيرة الذاتية لمؤلفها؟ وفي هذا الصدد يقدّم مناقشة حول روايته “متحف البراءة” التي طالما اعتبرها القراء قريبًا ووجهًا من وجوه شخصيته.

ويقول باموق في تفسير إقبالنا على الروايات: ‏”عندما نلتقي شخصًا في رواية يذكّرنا بأنفسنا فإنَّ أمنيتنا الأولى لهذه الشخصية هي أن تشرح لنا مَن نحن!”.

مَن الكاتب؟

‏يصف أورهان باموق في خطاب حصوله على جائزة نوبل شخصية الكاتب بقوله: “الكاتب هو ذلك الذي يمضي سنوات يحاول فيها بتؤدة أن يكتشف الكائن الآخر داخله، والعالم الذي يمنحه هويته. حين أتحدث عن الكتابة، فإنّ أول ما يخطر ببالي ليس رواية، أو قصيدة، أو تقاليد أدبية، وإنّما شخص يغلق على نفسه الباب في غرفة ويجلس إلى طاولة، ويحاول وحدَه أن ينظر إلى الداخل. وسط تلك الظلال يبني ذلك الشخص عالمًا جديدًا بالكلمات.

ذلك الرجل -أو تلك المرأة- قد يستعمل آلة كاتبة، قد يستفيد من سهولة الحاسب، أو أن يكتب بقلمٍ على ورقة، كما عملت على مدى ثلاثين عامًا.

وهو إذ يكتب قد يشرب شايًا أو قهوة أو يدخن السجائر. بين الحين والآخر قد ينهض من طاولته لينظر عبر النافذة، ليرى الأطفال يلعبون في الشارع، ويرى -إن كان محظوظًا- أشجارًا ومنظرًا جميلًا، أو أن ينظر إلى حائطٍ أسوَد.

يمكنه أن يكتب قصائد، أو مسرحيات، أو روايات، كما أفعل. كلّ هذه الاختلافات تأتي بعد الخطوة الحاسمة المتمثلة بالجلوس إلى الطاولة والنظر بتأنٍّ إلى الداخل.

أن يكتب المرء هو أن يحوّل هذه النظرة الجوّانية إلى كلمات، أن يدرس العالم الذي يمضي إليه ذلك الشخص حين يخلو إلى نفسه، وأن يفعل ذلك بتأنٍّ، وبإصرار، وباستمتاع”.

يكمل باموق وصفه قائلًا: “حين أجلس إلى طاولتي، لأيام، لأشهر، لسنوات، وببطءٍ أُضيف كلمات إلى الصفحة الخالية، أشعر كما لو كنت أخلق عالمًا جديدًا، كما لو كنت آتي إلى الوجود بذلك الشخص الآخر الذي يسكن داخلي، بنفس الطريقة التي يقوم فيها أحد ببناء جسر أو قبة، حجرًا حجرًا. الحجارة التي نستخدمها نحن الكتّاب هي الكلمات”.

بهجة الانحطاط ومذكرات قبو

يقول علي عزت بيجوفتش إنّ الشخصيات السلبية تبدو أكثر حقيقة من الشخصيات الإيجابية، ثمّ أردف بعد عدة سطور في النهاية: “البشر ليسوا أبرياء”.

تبدو عبارة بيجوفتش مفتاحًا لفهم هذا التداعي الذى تحبّه النفس للمشاعر السلبية، وأشعر أنّ استدعاء تلك المشاعر أيسر من القبول بالأفكار الإيجابية. الأمر يتحوّل مع المشاعر السلبية إلى درجةٍ أعمق، وهى بهجة الانحطاط، وهي من الأفكار المهمة التي يقدّمها باموق في تحليل عالم الروائي فيودور دوستويفسكي، خصوصًا كتابه “مذكرات قبو”.

عاد باموق إلى الروائي دوستويفسكي في كتابه “مذكرات من تحت الأرض” أو “مذكرات قبو“، وهو يحلل القراءة الأولى في شبابه المبكر. لم يكن باموق شديد الانتباه إلى مباهج ومنطق الانحطاط الذي ألهمه غضب البطل وهو يهيم وحيدًا في مدينة سانت بطرسبورج العظيمة، منتقدًا كلّ ما رآه بسخريته الحادة كالموسى. رأى باموق بطلًا من تحت الأرض كتنويعة أخرى من البطل راسكولنيكوف في رواية “الجريمة والعقاب”، رجلًا فقدَ كلّ إحساس بالذنب، أعطت السخرية البطل منطقًا مغويًّا ونغمة إلزامية. وعندما قرأها باموق لأول مرّة في سن الثامنة عشرة قدَّر قيمة “مذكرات من تحت الأرض“، لأنّها عبَّرَت بانفتاحٍ عن كثير من أفكاره التي لم يعبّر بها بعدُ عن حياته في إسطنبول.‏

باموق وهو شاب صغير استطاع بسهولة وفي الحال أن يتطابق مع ذلك الشخص الذي عزل نفسه عن المجتمع وتراجع داخل ذاته في الرواية. وكان ثمة صدى لإصرار البطل في الرواية على أنّ “الحياة فوق سن الأربعين أمر مخجل” (وضع دوستويفسكي تلك الكلمات على فم بطله البالغ أربعين عامًا عندما كان هو نفسه في الثالثة والأربعين).

يتساءل باموق لماذا رأى الراوي أنّ وجهه نفسه يحمل نوعًا من البله، ولماذا انغمس في لعبة سؤال النفس “إلى متى أستطيع أن أحتمل نظرة هذا الرجل؟”. لقد شارك باموق وهو شاب هذه الأفكار وكلّ هذه الحالات المزاجية الخاصة جدًّا.

استطاع باموق في كتابه “ألوان أخرى” وهو كبير أن يتحدث بارتياحٍ أكبر عن الموضوع الحقيقي للكتاب وينبوعه الذي لا ينضب: “إنّها مشاعر الغيرة والغضب والكبرياء التي يشعر بها رجل لا يستطيع أن يحوّل نفسه إلى أوروبي”.

ويدرس باموق هذه الحالة ويسمّيها بهجة الانحطاط، فيقول: “كلنا يعرف بهجة الانحطاط، وريما وجب أن أوضح هذا. لا بدّ أنّنا جميعًا عِشنا في أوقات اكتشفنا فيها أنّه من الممتع أن نحطّ من أنفسنا، حتى ونحن نقول لأنفسنا إنّنا لا قيمة لنا مرات ومرات، وكأنّ التكرار سوف يجعل ذلك حقيقة. فجأة نجد أنّنا تحررنا من كلّ تلك القيود الأخلاقية التي تدعونا للإذعان، ومن القلق الخانق لضرورة أن نطيع القواعد والقوانين، ومن الاضطرار إلى أن نكزّ على أسناننا ونحن نتشوّق إلى أن نكون مثل الآخرين. وعندما يحط الآخرون من شأننا، نصل إلى نفس النتيجة التي نصل إليها عندما نبادر نحن بأنفسنا إلى إذلال أنفسنا، ثمّ نجد أنفسنا في مكانٍ حيث يمكن أن ننغمس بمنتهى الأريحية في وجودنا، ورائحتنا، وقذراتنا، وعاداتنا، المكان الذى يمكن أن نتخلى فيه عن كلّ أمل في تحسين الذات والتوقف عن محاولة تغذية الأفكار المتفائلة حول البشر الآخرين، هذا المكان شديد الراحة لدرجة أنّنا لا نستطيع إلا أن نشعر بالامتنان للغضب والأنانية التي أوصلتنا إلى تلك اللحظة من الحرية والعزلة”.

إنّ ملاحظات باموق على أدب الكاتب الروسي وربطها بسياق العلاقة المتوترة بين روسيا وأوروبا، تضع تفسيرًا لبعض نصوص دوستويفسكي، وتضيف عليها أبعادًا تعمّق نظرتنا إليها، وتحذّرنا من التماهي المجرد مع أفكار أبطال الروايات دون دراسة سياق الكتابة نفسها وظرفها الزمني وتأثير أفكار الكاتب في نصه.

صوت إسطنبول

باموق هو راوي مدينة إسطنبول الذي كتب عن الزلازل والبوسفور والنوارس، يتوقف في كتابه عند صوت المدينة: “لكلّ مدينة صوت لا يمكن أن يُسمع في غيرها، صوت يعرفه جيدًا كلّ هؤلاء الذين يعيشون في المدينة ويتشاركون فيه كأحد الأسرار. صفارة المترو في باريس، وطنين الدرّاجات البخارية في روما، والأزيز الغريب في نيويورك. ولإسطنبول أيضًا صوت يعرفه جميع سكانها بشكلٍ حميم، إنّه الطنين المعدني الذي ظلّوا يسمعونه على مدى ستّين عامًا والذي يحدث كلّما رست إحدى العبارات على أيٍّ من المراسي الخشبية المطوقة بإطارات السيارات”.

شارك

مقالات ذات صلة