ليس عابرا أن تجد إسرائيل نفسها تحت تأثير منخفض يعصف بأمنها واقتصادها، ورياح عاتية تضرب ربيع ما أنجزته على حساب الحق الفلسطيني، وليس عابرا إن أمطرت سماء غزة ذات أكتوبر وماتزال رصاصا غزيرا اخترق مظلة نتنياهو الأمريكية والغربية في سابقة لم تألفهاإسرائيل، ليقف الوحش الكاسر وحيدا يهرول جنوبا وشمالا لصد أبواب عاصفة هوجاء فتحت على مصراعيها.
تشي أغلب التحليلات السياسية الصادرة من قلب إسرائيل أن الرجل المتربع على رأس الحكومة أمام مفترق طرق، وأن اتخاذ قرارات حاسمة باتت مهمة معقدة وشبه مستحيلة يتعثر عندها عقله الإجرامي وأنه لا يقوى حاليا إلا على ممارسة الهروب إلى الأمام باحتراف، وقد ملئ جعبته بما استطاع إليه سبيلا من الأيام والأسابيع التي باتت فاصلة وحاسمة على التوقيت الأمريكي.
كشر نتنياهو عن أنيابه السياسية والعسكرية، تورط استراتيجيا، وتخبط داخليا، وعلق على شجرة المكابرة يقترف أفظع أشكال الإبادة والجرائم المروعة التي وثقتها وماتزال عيون المجتمع الدولي بقضائه ومنظماته وجمعياته، لتهز ارتدادات الحرب حاضر دولة فصل عنصري ظنت لسنوات أنها خدعت الخارج بزيف ديمقراطيتها وأخلاقيات جيشها، واعتقدت أن تقادم الزمن أسقط عنها فظائع نكبة العام ١٩٤٨ وما جرته من حروب وويلات حتى اليوم.
فشل ذريع حصده رئيس حكومة الاحتلال بعد أن مشى واثق الخطى على طريق العنجهية والغرور واضعا بنك أهداف عالي السقف، ليهوي السقف على رؤوس جيشه وجنرالاته ومسؤوليه وتتشتت الأهداف وتلوح الخيبة بالمزيد من الخسائر، على وقع خلافات واستقالات وتراشق اتهامات وتقاذف مسؤوليات، إضافة إلى تراجع موجع في قطاع الاقتصاد، ومؤسسات متهالكة وجيش عاجز، وسقوط مدو في الهاوية الأخلاقية.
أما في الخارج، فقد تداعت صورة ما سمي بالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، واستنفر الغرب بإعلامه ونخبه الفكرية والثقافية، فكانت مظاهرات طلابية حاشدة وصرخات مدوية في معاقل الداعم الأمريكي، لينسحب الأمر ذاته إلى وسائل التواصل التي اكتظت بالمعارضين لحرب الإبادة في غزة، وحاصرت الهتافات نتنياهو ليس في تل أبيب ومدن الداخل فحسب، بل في العواصم العالمية وبتنا على موعد يومي مع بث الفضائح وكشف الأكاذيب والنقاشات الساخنة والتصريحات النارية، كل ذلك انعكس تراجعا وترددا انحسرت حدوده عند تهديدات كلامية لا أرضية لها في الميدان، وضغط دبلوماسي لم يعد مسموعا كما في السابق، بل تراجع نتنياهو عن عنتريات الحرب في جبهة الشمال، في حين راوحت المعركة في غزة رصاصها وقذائفها وكمائنها، تحصد المزيد من القتلى والجرحى في صفوف جنود الاحتلال وضباطه.
حصاد اقترب بالحرب من فصولها الأخيرة، فيما لايزال الفأر هاربا من مصيدة الدول اللاعبة على خط الوساطات والضغط الدبلوماسي لوقف الحرب، يعيش حالة إنكار لهزيمة مدوية تمثلت أولا بفشل جيش الاحتلال بتحقيق أي من الأهداف المعلنة، وإضاعة نتنياهو للبوصلة، وهو فشل استفز صناع القرار وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي تجهد بالحل الدبلوماسي المناسب لمصالحها وعلى تقويمها السياسي علها تنقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
تتسع مروحة اللقاءات وتتسارع، وإذا كان الأمريكي يسعى لتفصيل حل على مقاس مصالحه وانتخاباته فإن للمقاومة الفلسطينية مقاسها وشروطها أيضا التي تفرضها معطيات الميدان المشتعل حتى اللحظة، وأسطورة الصمود المذهلة لشعب يرفض التراجع بعد تضحيات جسام.
ويدرك نتنياهو ومن معه أن قائمة الأهداف التي تبجح بها مرارا ما هي إلا ضرب من ضروب الخيال، وأن عناده جعله يغالب واقع القدرات العسكرية لحماس وفصائل المقاومة حتى اصطدم بتقدم عسكري وصاروخي عجز جيشه واستخباراته إلا عن إدراك اليسير منه حتى الآن، إلى جانب الضغوط الداخلية التي يرزح تحتها بفعل وزراء ومسؤولين وعائلات الأسرى التي تطالب من جانبها بإبرام صفقة تبادل في أقرب وقت.
بناء عليه، تنحسر رياح الحرب شيئا فشيئا وتتبخر الأهداف، وكرة النار التي تمسك بها نتنياهو سرعان ما أحرقته بلهيبها وبات رئيس حكومة مطارد على الملعب الدولي تلاحقه اتصالات ولقاءات وضغوطات، تؤكد على مسامعه بأن ما قبل السابع من أكتوبر ليس كما بعده وأن ما من أحد يملك طوق نجاة له وأن الهروب ربما يؤجل السقوط ولكن لا يلغيه.