مدونات

هوامش على دفتر كأس العرب!

ديسمبر 23, 2025

هوامش على دفتر كأس العرب!

الكاتب: عادل العوفي

لا ينكر هذا إلا جاحد، أنّ الرونق العام الذي عادت به مسابقة كأس العرب لكرة القدم، وتحديدًا منذ عام 2021، ارتبط مباشرة بالحماس الذي أبدته دولة قطر للفكرة، حين أعادت إليها النبض، ومنحتها شريان الاستمرارية، بل ونجحت في إدخالها تحت مظلّة الاتحاد الدولي لكرة القدم. هذه الدينامية الجديدة غُلّفت بطابعٍ جامع، وشعار عام موجّه لكلّ العرب، تفرّعت عنه عناوين عريضة تتحدّث عن لمّ الشمل والوحدة العربية المفقودة.

ويمكن استنباط كلّ ذلك بوضوحٍ من خلال العودة إلى حفل افتتاح الدورة الماضية، الذي كان مكتنزا بالمقولات والدعوات لإنهاء عقودٍ من الجفاء والتباعد، والالتفاف حول القضايا المصيرية والرئيسية للأمة. ظلّ شعار «ما يجمعنا أكبر ممّا يفرقنا» حاضرًا ومتداولًا، لدى الصغير قبل الكبير. وهنا لا بدّ من التذكير بتلك الجملة الصريحة التي ما زالت ترن في الآذان، حين اختتمت شخصية «جحا» حديثها في الحفل بقولها: «إذن يا عرب، أرجو أن تكون الرسالة قد وصلت… هذا ما أتمناه على الأقل، ويبقى السؤال: هل سنرجع؟ متى سنرجع؟».

بطبيعة الحال، لا يمكن تحميل التظاهرة فوق طاقتها، أو الادعاء بأنّها وحّدت الأمة من المحيط إلى الخليج، رغم ما لكرة القدم اليوم من سطوةٍ ونفوذ على العقول والقلوب، شئنا أم أبينا. لكنّني سأتوقف عند بعض الملاحظات التي رافقت الدورة الماضية والحالية من كأس العرب، والتي كانت تسمّى في فترات سابقة «كأس فلسطين».

فيروس الترند الفتاك.

ما يثير الحنق منذ عودة عجلة المسابقة للدوران، هو الفجوة العميقة بين الرسائل الواضحة والصريحة التي تقدمها البطولة، خصوصًا في حفلات الافتتاح، وبين طريقة تعاطي الإعلام العربي معها. في افتتاح هذا العام، شاهدنا مجسمًا يرمز إلى القدس، واستعراضًا للتاريخ العربي من مراحل القوة إلى الضعف والوهن، ثمّ دعوة مشبعة بالأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل. لكن السؤال الملح حقًّا: هل فهمت وسائل الإعلام العربية هذه الرسائل؟ أم أنّها عاجزة عن استيعابها؟ أم تتجاهلها عمدًا لأغراض أخرى؟ أم أنّنا أوفياء فقط للشعارات والكلام المعلب، بينما تسير الأفعال على أرض الواقع في الاتجاه المعاكس، كما نرى ونعيش اليوم في مأساة أهلنا في غزّة، على سبيل المثال لا الحصر؟

سأدخل هنا في التفاصيل. خلال أيام البطولة، لاحظنا أنّ معظم القنوات العربية الرياضية لجأت إلى استقدام من يصنفون «نجومًا» في التحليل، من مختلف البلدان العربية، بحيث يمثل كلّ بلد شخصية بعينها. هذه خطوة محمودة في ظاهرها، خاصة مع التنوع اللهجي، وإصرار كلّ طرفٍ على الحديث بلهجته المحلية، بل وارتداء الأزياء التقليدية، وهو ما يبعث على البهجة ويعكس تنوّعًا ثقافيا جميلا.

غير أنّ النقطة اللافتة، والمقلقة في آنٍ واحد، هي الإصرار على استضافة أسماء معروفة بالصياح، وبالسعي وراء الهوس السائد في الإعلام العربي اليوم، أي «الترند». تحوّلت الاستوديوهات إلى حلبات صراع، وصراخ متبادل، وكلّ طرفٍ يدافع عن لاعب أو مدرب، أو حتى عن حركةٍ عابرة صادرة من أحد أبناء بلده، بعيدًا عن أيّ مصداقيةٍ أو تحليل موضوعي. فأيّ وحدة يمكن الحديث عنها وسط هذا الضجيج؟ وأيّ رسالةٍ جامعة يمكن أن تمر عبر أسماء لا تمثل ولا تعكس الهوية الحقيقية لشعوبها؟

الأدهى من ذلك، ظهور صفحات باتت «متخصصة» في التربص بهذه الشخصيات، واقتناص زلاتها وتصريحاتها، لصناعة عناوين فضفاضة تجتاح منصات التواصل الاجتماعي، وتزرع الفتن بين الشعوب والأفراد. وهكذا، تصبح أهداف المسابقة في خبر كان. والمفارقة الإيجابية الوحيدة، أنّ الجماهير العربية الحاضرة في المدرجات أثبتت وعيًا أرقى بكثيرٍ ممّا تنتجه بعض وسائل الإعلام، كما شاهدنا في مشاهد التلاحم بين الجماهير المغربية والجزائرية، أو اللقطات المؤثرة بين السوريين والفلسطينيين، لاعبين وجماهير.

وهنا يفرض السؤال نفسه: هل اختيارات البرامج الرياضية مبنية على أسسٍ مهنية، تستند إلى التحليل والتدقيق والمعطيات، عبر استضافة أصحاب الاختصاص والخبرة؟ أم أنّها تقوم على استدعاء أشباه محللين وإعلاميين باتوا يجتاحون المشهد، يقتاتون من فتات السوشيال ميديا، ويخدمون أجندات خبيثة ومغرضة؟

لغة الضاد والصحفي القمري.

جاءت دعوة برنامج «المجلس»، الذائع الصيت على قنوات الكاس القطرية، للصحفي القادم من جزر القمر، بمثابة مفاجأة سارة أسعدت الكثيرين من التواقّين لاكتشاف هذا البلد العربي المهمّش إعلاميًّا. لكن الرسالة الأهم التي حملها هذا الصحفي الشاب، هي إصراره على الحديث باللغة العربية الفصحى، واعتزازه بها، في وقت تبدو فيه الطريقة التي يتعامل بها بعض زملائه العرب مع لغة الضاد محزنة، وتكشف خللًا عميقًا متجذرًّا في مجتمعاتنا، نتيجة إهمال هذه اللغة العظيمة، التي يكفيها شرفًا أنّها لغة القرآن الكريم.

إطلالة هذا الصحفي القمري وجّهت صفعتين واضحتين للإعلام العربي: الأولى تتعلّق بالجهل المشين بدولةٍ عربية تعتزُّ بأصولها وثقافتها، والثانية رسالة مباشرة إلى «نخبة» الصحفيين العرب بشأن قيمة اللغة العربية. فهل استوعبتم دروس حسام الدين محمد جيّدًا؟

رسائل من غزّة

رغم الخذلان والأنين، شاهدنا رسائل ومقاطع فيديو قادمةً من غزّة الصمود، وهي تحتفل بتتويج المنتخب المغربي، وتواسي نشامى الأردن بعد خسارة النهائي. كلّ ذلك في ظلّ هدنةٍ مترنّحة، لا يفوت الكيان الصهيوني فرصة لخرقها، ومع شتاءٍ قاسٍ يضرب الخيام، ويخترق أجساد الأطفال المنهكة.

ومع ذلك، ما زالوا يفرحون لأشقائهم، ويشاركونهم أفراحهم الرياضية بلا حقد ولا ضغينة، رغم أنّهم تُركوا وحدهم في مواجهة المحرقة منذ عامين. فلماذا يشعرون بكم وتحسّون بهم، بينما أنتم غارقون في سُبات عميق، أو تغضون الطرف عنهم عن سبقٍ إصرار وترصد، يا أمةَ الخنوع والهوان؟

شارك

مقالات ذات صلة