سياسة
عادت مدينة حلب، شمال سوريا، إحدى أكثر المدن السورية هشاشةً بعد سنوات الحرب، إلى واجهة التصعيد العسكري، إثر خرق جديد لاتفاق 10 آذار/ مارس الموقع بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وذلك عقب زيارة رفيعة المستوى لوفدٍ تركي إلى العاصمة دمشق. خرقٌ لم يأتِ في سياق اشتباك عابر أو خطأ ميداني، بل اتخذ طابعاً تصعيدياً مباشراً طال أحياءً سكنية، ومحيط منشآت طبية، وأسفر عن سقوط ضحايا مدنيين، في توقيتٍ سياسي بالغ الحساسية، أعاد طرح تساؤلات جوهرية حول جدّية “قسد” في تنفيذ التزاماتها، وحدود المناورة التي تمارسها في ظلّ التحوّلات الإقليمية والدولية المتسارعة.
ضحايا مدنيون وقصف أحياء سكنية.
قُتل مدنيان، امرأة وطفل، وأُصيب أكثر من 10 مدنيين آخرين، جراء قصف نفّذته قوات سوريا الديمقراطية استهدف أحياءً سكنية في مدينة حلب، وفق ما أعلنت وزارة الصحة السورية. كما اندلعت حرائق في عددٍ من المنازل نتيجة القصف، وسط حالة من الهلع والنزوح المحدود للأهالي، ولا سيّما في محيط حيّي الشيخ مقصود والأشرفية.
وبحسب بيان وزارة الصحة الصادر يوم الإثنين 22 كانون الأول/ ديسمبر، فإنّ القصف استهدف منطقةً سكنية قريبة من مستشفى الرازي، ما أدى إلى ارتقاء شاب ووالدته، وإصابة 8 مدنيين بجروحٍ متفاوتة، بينهم طفل وطفلة، إضافة إلى إصابة عنصرين من فرق الدفاع المدني السوري أثناء تأديتهم بواجبهم. وأكدت الوزارة أنّ جميع المصابين نُقلوا إلى المشافي لتلقي العلاج، وأنّ الطواقم الطبية تتابع أوضاعهم الصحية بشكلٍ مستمر.
وشدّدت وزارة الصحة على أنّ القصف طال محيط منشآت طبية، معتبرة ذلك “انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني”، ومؤكدة أنّ استهداف المرافق الصحية “عمل مدان ومرفوض أخلاقياً وقانونياً”، في وقتٍ أعلنت فيه حالة الاستنفار الكامل في مشافي محافظة حلب تحسباً لأيّ تطورات ميدانية إضافية.
استهداف بالقنص قبل القصف.
لم يكن القصف أولى حلقات التصعيد، إذ سبقه استهداف نفّذته قوات “قسد” عصر الإثنين، عبر قناصين تمركزوا واستهدفوا محيط دوار الشيحان ومنطقة الليرمون، ما أسفر عن إصابة 3 مدنيين، وعنصرين من الدفاع المدني السوري، إضافة إلى عنصر من وزارة الداخلية وعنصر من وزارة الدفاع، وفق مصادر رسمية.
هذا التصعيد المتدرج، من القنص إلى القصف المدفعي، عكَس وفق مراقبين نية واضحة لرفع مستوى التوتر، وإرسال رسائل سياسية تتجاوز الإطار العسكري المحدود.
مواقف رسمية: تحميل “قسد” المسؤولية.
محافظة حلب أعلنت أنّ قوات “قسد” قصفت بالقذائف مستشفى الرازي ومحيطه، مؤكدة أنّ القصف تسبب بحركة نزوح بين السكان، في ظلّ مخاوف من توسع دائرة الاشتباكات.
من جانبه، قال قائد الأمن الداخلي في محافظة حلب، العقيد محمد عبد الغني، إنّ قوات الأمن تعمل على إخلاء المدنيين وتأمين سلامتهم في المناطق التي تتعرّض لاعتداءاتٍ من قبل “مليشيا قسد”، مؤكداً تنفيذ انتشار أمني مكثف لضمان استقرار المدينة وحماية الممتلكات العامة والخاصة.
ووجه عبد الغني تحذيراً واضحاً لكلّ من يحاول “العبث بأمن حلب أو تهديد سلامة سكانها”، مشدداً على أنّ القوات الأمنية “ستتعامل بكلّ حزمٍ وفق القوانين والأنظمة الرادعة”، ومؤكداً أنّ أمن المواطنين، ولا سيّما في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية، يمثل أولوية قصوى.
وزارة الدفاع والداخلية: رواية متطابقة.
إدارة الإعلام والاتصال في وزارة الدفاع السورية أكدت أنّ قوات “قسد” هاجمت بشكلٍ مفاجئ نقاط انتشار قوى الأمن الداخلي والجيش العربي السوري في محيط حي الأشرفية، ما أدى إلى وقوع إصابات في صفوف القوات النظامية. ونفت الوزارة صحة الروايات التي تروجها وسائل إعلام تابعة لـ”قسد” حول هجوم الجيش السوري على مواقعها، موضحة أنّ القوات الحكومية ترد فقط على مصادر النيران التي تستهدف منازل المدنيين ونقاط الانتشار العسكرية.
بدورها، قالت وزارة الداخلية السورية إنّ قوات “قسد” أقدمت على “الغدر” بقوات الأمن الداخلي المتمركزة في الحواجز المشتركة، عقب انسحابها المفاجئ وإطلاق النار على تلك الحواجز، رغم الاتفاقات المبرمة، ما أدى إلى إصابات في صفوف الأمن والجيش والدفاع المدني، إضافة إلى مدنيين.
رواية “قسد”: اتهام الحكومة بالتصعيد.
في المقابل، زعم المكتب الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية أنّ عنصرين من قوى الأمن الداخلي (الأسايش) أُصيبا جراء “هجوم نفّذته فصائل مرتبطة بوزارة الدفاع في حكومة دمشق” على حاجز في دوار الشيحان، محمّلاً الحكومة السورية المسؤولية الكاملة عمّا وصفه بـ”التصعيد المنفلت الذي يهدد أمن المدينة وحياة المدنيين”.
ورغم هذا الاتهام، لم تقدّم “قسد” رواية متماسكة تفسر القصف الذي طال أحياءً سكنية ومحيط منشآت طبية، ما عزّز الشكوك حول طبيعة أهداف التصعيد ودوافعه السياسية.
زيارة تركية مفصلية.
جاء هذا التصعيد بعد ساعاتٍ فقط من زيارة وفد تركي رفيع المستوى إلى دمشق، ضمّ وزير الخارجية هاكان فيدان، ووزير الدفاع يشار غولر، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة إبراهيم كالن، حيث التقى الوفد الرئيس السوري أحمد الشرع، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة حسين السلامة.
وأعلنت الرئاسة السورية أنّ اللقاء تناول العلاقات الثنائية والتطورات الإقليمية، في حين أكد الجانبان، خلال مؤتمر صحفي مشترك، أنّ ملف “قسد” واتفاق 10 آذار/ مارس كان من أبرز القضايا التي نوقشت.
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني شدّد على أنّ الاتفاق الموقع مع “قسد” يعكس الإرادة السورية لتوحيد الأراضي، إلا أنّ “قسد لم تُظهر الجدية المطلوبة في التنفيذ”، مشيراً إلى أنّ دمشق قدمت مقترحاً لتحريك الاتفاق، وتلقت رداً يجري دراسته حالياً.
وأكد الشيباني أنّ منطقة الجزيرة “جزء لا يتجزأ من سوريا”، وأنّ أيّ تأخير في مسار الاندماج ينعكس سلباً على سكانها وخدماتها واقتصادها، معتبراً أنّ هذا الملفَّ يمثل أولوية للدولة خلال المرحلة المقبلة.
دعم مشروط وتحذير.
من جانبه، أكّد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان دعم بلاده للمباحثات بين الحكومة السورية و”قسد”، مشدِّداً على أنّ اندماج الأخيرة في الإدارة السورية يجب أن يتمَّ عبر الحوار، وبما يخدم مصلحة الجميع، محذِّراً من أنّ أيّ مسار خارج هذا الإطار “يهدّد أمن سوريا واستقرارها”.
وأشار فيدان إلى أنّ “قسد لا تُبدي رغبةً حقيقية في إحراز تقدم”، في موقفٍ عكس تقاطعاً واضحاً بين التقييمين السوري والتركي تجاه سلوك “قسد”.
استفزاز مقصود.
الباحث في الشأن العسكري رشيد حوراني يرى، في حديثٍ لـ”سطور”، أنّ المؤشرات الإقليمية والدولية منذ سقوط النظام السابق تتجه نحو دعم توحيد سوريا واستقرارها، وأنّ اتفاق 10 آذار جاء في هذا السياق برعايةٍ أمريكية وتركية.
ويضيف حوراني أنّ “قسد شعرت بعد توقيع الاتفاق بأنّه لا يلبي تطلعاتها بإقليمٍ منفصل أو حقوق تمييزية”، ما دفعها إلى اتباع سياسة المماطلة والاستفزاز الميداني، بهدف جرّ الحكومة السورية إلى ردّ عسكري، ومن ثم اتهامها بارتكاب انتهاكات بحقِّ المدنيين، على غرار ما جرى في الساحل والسويداء.
ويرجح حوراني أنّ صمت الجانب الأمريكي حيال ما يجري شرق الفرات، وتزامن ذلك مع الزيارة التركية، يشيران إلى “ضوء أخضر” لتوجيه رسالة ضغط قاسية لـ”قسد”، سواء عبر التصعيد السياسي أو عبر تفكيكها من الداخل في حال استمرار التعنت.
خلط أوراق سياسي.
من جهته، يعتبر الباحث السياسي وائل علوان أنّ التصعيد كان متوقعاً بعد زيارة الوفد التركي والتصريحات التي أعقبتها، مشيراً إلى أنّ “قسد سارعت إلى تحميل الحكومة المسؤولية، في محاولةٍ لخلط الأوراق والتنصل من اتهامات المماطلة وعدم تنفيذ الاتفاق”.
ويرى علوان أنّ “قسد تسعى لتمديد تنفيذ اتفاق العاشر من آذار، الذي ينتهي نهاية عام 2025، وربما لستة أشهر إضافية، مستخدمة التصعيد الميداني كأداة ضغطٍ على الحكومة السورية، وعلى الموقفين الإقليمي والدولي”.
ويعكس التصعيد الأخير في حلب نمطاً متكرراً في سلوك قوات سوريا الديمقراطية “قسد” يقوم على استخدام الورقة الأمنية في لحظات التحوُّل السياسي، ولا سيّما عندما تتقاطع المواقف الإقليمية والدولية على ضرورة إنهاء حالة الانقسام الجغرافي والسيادي في سوريا. ومع تزايد الضغوط، يبدو أنّ هامش المناورة أمام “قسد” يضيق، في وقتٍ تدفع فيه الأفعال الميدانية ثمناً إنسانياً باهظاً يدفعه المدنيون أولاً، ويهدّد ما تبقى من فرص الاستقرار في واحدةٍ من أكثر المدن السورية إنهاكاً.




