تأملات
يبدو عنوان المقال غريباً، لكنّني استلهمته من آيةٍ عظيمة، كلّما أعدت قراءتها نفحتني بمعانٍ وأنوارٍ جديدة، أدهشتني للغاية، “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” استوقفتني كلمة (خاشعة)، وتساءلت لماذا قال الله سبحانه وتعالى عن الأرض خاشعة ولم يقل جافة، والخشوع مقصودٌ بهِ هنا الجفاف وتحديداً (موت الحياة)، وهل لخشوع الإنسان علاقةٌ بخشوع الأرض في هذه الآية تحديداً؟، ويثيرني دائماً هذا الالتحام المعنويّ الهائل بين الأرض والإنسان الّذي خُلِقَ منها، بمعنى أنَّ الأرض هي مرآةٌ للإنسانِ بكلِّ ما يحدثُ عليها وأنا أقصد هنا (التّراب) أصلي وأصلك.
هل يحتاج الإنسان ليخشعَ أن يموت؟ وما هي ماهية الموت هنا؟
الخشوع يعني أن تموت كلّ رغباتك، ولا يبقى في روحك إلا جذوة اشتعالك بالمحبة والتذلّلِ لربِّ العباد، وأن تنقطع عن الأسباب في حضرة المُسبِّب، وهذا حال الأرض في جفافها وقد انقطعت عن كلِّ الأسباب الأرضية في إحيائها، لتلجأً لربها العظيم في حالةٍ خشوع حقيقية مكتملة، لكنّ النصّ القرآني يبهرني أكثر إذ أتبعها ب(فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) يعني أنّ الخشوع التام (الجفاف التام) يجب أن يتحقّق أولاً لكي تتحقّق عملية الإحياء المتمثلة في (إنزال الله عز وجل للماء) لكن ليس هذا فقط، لم يكتف الله حبيبي بأنْ يقول أنزلنا عليها الماء مثلًا وارتوت وانتهت العملية، بل قال (اهتزت) يا إلهي، لماذا اهتزت ؟
ماذا يعني الاهتزاز؟
أخذني هذا المعنى إلى معانٍ كثيرة وجودية في أعماق روحي، تذكّرت الكثير من الاهتزازات التي تعرضت لها، ظننتها النهاية، لكنّها كانت عملية إحياء لم أدرك حقيقتها إلا بمرور الأيام والسنوات، تظنّ أنّك تعرضت لزلزال، ثمّ فجأة تتفاجأ بوردةٍ تنمو من بين الأرض المتشققة في داخلك!
هو ذاك ما يحدث لنا حقيقةً، نحن نحتاج مثل الأرض تماماً إلى ذلك الاهتزاز، تلك الهزّة، يجب أن تغيّر مساراتك الداخلية، يجب أن تخلط أوراقك، وتعبث بخططك، وأن تعيدك إلى لحظتك الأولى التي خشعت بها حين قال لنا ربنا (ألست بربكم) فقلت له (بلى)
تظنّه اهتزازاً، تظنّه وقوعاً، تظنّها جروحاً، ولكنّها كانت لحظةً لتنمو، عفواً بل لتربو كما يقول ربنا: (اهتزت ورَبَـت) أعود هنا إلى هذه اللقطة الفريدة، (الربو) فربي حبيبي لم يقل النمو، بل (الربو) والتي اشتق منها كلمة ربت، فلماذا كلمة ربت؟ كلمة ربت أي امتلأت بالماء وأصبحت الآن جاهزة للنمو بأفضل ما يكون، أي أنَّ نموها مكتمل جميل خصب، وليس فجائياً أو عَرَضيًّا أو قد ينجح أو لا ينجح، هي عملية نمو ناجحة بتيسير وتدبير إلهي متقن.
لقد استقرت هذه الآية عميقاً في قلبي حتى وجدتني أقول لنفسي: (موتي أيتها النفس وانقطعي عن هذه الأسباب البلهاء، فكلّ الأسباب واهية، لا تتعلقي بها، موتي عن التعلّق بغير الله، وحده محيي الموتى، وحده الذي هو على كلّ شيءٍ قدير، وحده الذي ينزل الماء والحب والنور جديرٌ بالتعلّق، موتي أيتها النفس لينزل ماء الله فتهتزّي، فإنّ الله حين يُنزل أنواره يجب أن تتهيّأ الأرض لاستقباله) اللهمّ ماءً وحبًّا وعرفانيّة تحيي بها أرواحنا وقلوبنا وأجسادنا حياةً عظيمة جميلة مُحْيِيَة، وصلّى الله على سيدنا محمّد وعلى اله وصحبه وسلم




