تأملات
في زمنِ شبابِ ليوناردو دافنشي، انحصرتِ المعرفةُ في أقسامٍ جامدةٍ، فمن جهةٍ سيطرتْ الفلسفةُ “السكولائيةُ” التي، تنطلق من معارفَ رسَّخها آباءُ الكنيسةِ، ومن مبادئِ علمِ اللاهوتِ!
ومن جهةٍ أخرى كانت الفنونُ التي لا تُعتبر أكثرَ من حِرَفٍ بسيطةٍ!
أما العلومُ فلم تصلْ لدرجةٍ مقبولةٍ من التجريبِ،
وفي الهوامشِ وُجدتْ جميعُ أنواعِ المعارفِ المظلمةِ، أو فنونِ السحرِ!
كان دافنشي الابنَ غيرَ الشرعيِّ لكاتبِ عدلٍ،
وبسببِ هذا الوضعِ الاجتماعيِّ القاتمِ، حُرِمَ من التعليمِ النظاميِّ المعتادِ،
وهو ما تحوَّلَ إلى نعمةٍ عظيمةٍ كامنةٍ!
حيث تحرّر عقلُه من كلِّ التحيزاتِ المسبقةِ،
وقوالبِ التفكيرِ الجامدةِ المهيمنةِ وقتئذٍ.
وتدرَّبَ في مرسمِ الفنانِ الموهوبِ “فيركيو”،
وبمجرّدِ شروعِه تعلّمَ حرفةَ الرسمِ، والتصويرَ الزيتيَّ،
نشأتْ بذرةٌ أدَّتْ إلى تشكُّلِ واحدٍ من أعظمِ العقولِ في التاريخِ!
إنَّ التصوُّراتِ المسبقةَ حول أمرٍ من الأمورِ،
تضعُنا في قالبٍ قلَّما نستطيعُ الخروجَ منه،
العاداتُ والتقاليدُ، الإعلامُ، القوانينُ، آراءُ الناسِ،
كلُّها أمورٌ “تُقولِبُنا” من حيث لا ندري!
إنها تسلبُنا الجرأةَ على التجريبِ إلا في الحدِّ الذي تسمحُ به،
إنها جرأةُ المتاحِ والممكنِ فقط،
والإبداعُ متى ما كان مقيَّداً كان عاجزاً،
وأغلبُ المبدعينَ فكَّروا يوماً خارجَ الصندوقِ!
خلالَ عامِه الأولِ في الجامعةِ، وصل “جورج دانتزيغ”،
مُتأخراً إلى الصفِّ فوجد على السبورةِ مسألتين،
قام بنقلهما على دفترِه وأخذهما إلى البيتِ مُعتقداً أنّهما واجبٌ منزليٌّ،
وبعد عدةِ أيامٍ قام جورج بالاعتذارِ من أستاذِه لتأخرهِ في إعادةِ الواجبِ،
الذي كان أصعبَ قليلاً من المعتادِ!
أخذ المعلمُ الواجبَ من تلميذِه دون أن يُعلِّقَ بكلمةٍ واحدةٍ حتى،
وبعد ستةِ أسابيعَ قام المعلمُ باستدعاءِ جورج إلى مكتبِه،
وقال له: هذه المسائلُ لم تكن واجباً،
وإنما كتبتُها على السبورةِ كمثالٍ عن مسائلَ رياضيّةٍ عجز العلماءُ عن حلِّها!
لقد اجتمعنا لمدةِ ستةِ أسابيعَ وناقشنا ما قمتَ به،
أهنئك يا بُني لقد قمتَ بحلِّ المسائلِ حلاً صحيحاً!
بالإضافةِ إلى نبوغِ جورج وذكائِه،
برأيي أنّ هناك عاملاً مهمّاً جعله ينجحُ بحلِّ المسائلِ الرياضيةِ المستعصيةِ،
وهو انطلاقُه من فكرةِ أن هناك حلاً لها!
أعتقد أنّه لو وصل باكراً وسمِع أستاذَه يقول هذه المسائلَ ليس لها حلٌّ،
لربما لم يكن ليتحمَّلَ عناءَ أن يُحاولَ حلَّها حتى!
ولكنّه لما اعتقد أنّها واجبٌ، اعتقد أيضاً أنّ هناك حلاً بالضرورةِ، فأخذ يبحثُ عنه!
الفكرةُ من هذا، هو أنّ الاستعدادَ النفسيَّ لفعلِ شيءٍ ما،
هو عاملٌ حاسمٌ وهامٌّ في فعلِه،
لا يكفي أن نملكَ الاستعدادَ الجسديَّ فقط لفعلِ الأشياءِ!
والفكرةُ الأخرى أنّ جورج حاول حلَّ المسائلِ دون علمٍ مسبقٍ أنّه لا حلَّ لها،
كان في داخلِه يعرفُ أنّه من الممكنِ حلُّها،
لهذا كان هو يحاول أن يجدَ حلاً يمشي في طريقِ الممكنِ،
ولكن لو كان في داخلِه قد عرف أنّه يمشي في طريقِ المستحيلِ،
لما استطاع حلَّها، أو لعلّه لم يكن ليجربَ حتى، لأنّه سيكون ضمنَ قالبِ المستحيلِ!



