مدونات

 غزة في قلب الهوية السورية

ديسمبر 14, 2025

 غزة في قلب الهوية السورية

ظاهر صالح

 

وسط احتفالات دمشق بعيد التحرير وسقوط النظام السابق، برز مشهد لافت ومؤثر؛ هتف جنود الجيش السوري الجديد لغزّة، مرددين شعارات تفيض بالإصرار والتحدي، تجاوزت هذه الهتافات، التي يُفترض أن تعكس تحوّلاً سياسياً ووطنياً داخلياً، حاجز الصمت ووصلت مباشرة إلى قلب المؤسسات الأمنية للاحتلال الإسرائيلي، ممّا أثار قلقاً عميقاً دفع دمشق للمطالبة بإدانة تلك التسجيلات “العدوانية”، إن رد فعل الاحتلال المبالغ فيه على مجرّد هتافات يكشف عن قلقٍ أمني أعمق؛ إذ يلامس الخوف من تبلور وعي جمعي موحد في المنطقة، وعي يتخذ قضية فلسطين محوراً لهويته الجديدة.

 

لماذا غزّة تحديداً؟

إنّ نداء الجنود السوريين لغزّة ليس مجرّد شعار سياسي أو عسكري عابر، بل صرخة وجدانية تحمل ثقل تاريخ من المعاناة المشتركة والأمل الموحد. غزّة اليوم ليست مجرّد بقعة جغرافية محاصرة، بل أصبحت رمزاً أسطورياً للصمود الذي لا ينكسر، وللكرامة التي تتحدى آلة الحرب، وللإنسانية التي ترفض الذل، عندما يهتف جندي سوري “غزّة، غزّة، شعار النصر والصمود” أو “لأصنع من دمائك ذخيرة”، فإنّه لا يعلن حرباً عسكرية بقدر ما يعلن تضامناً روحياً ومعنوياً يردم المسافات ويجمع القلوب المنهكة، هذه الهتافات هي مرآة لعقودٍ من الألم العربي المشترك، وتعبير عن أن الأوجاع الوطنية لا يمكن أن تُنسي الأمة جرحها المركزي.

 

دلالات قلق الاحتلال الإسرائيلي.

قلق الاحتلال الإسرائيلي، الذي دفع أجهزته الاستخباراتية لمناقشة التسجيلات على مدار 24 ساعة، لا ينبع من تهديد عسكري وشيك صادر عن هذه الهتافات. فالاحتلال يدرك تماماً السياق الانتقالي والداخلي للجيش السوري الجديد، لكن الخطر الحقيقي الذي يراه يكمن في البُعد الرمزي والعقائدي.

لطالما اعتمد الاحتلال على تفتيت الوعي العربي وإغراقه في صراعاتٍ داخلية، وظهور جيش وطني جديد في دولة محورية مثل سوريا يتبنّى قضية غزّة شعاراً للنصر، يهدّد بتوحيد السردية الإقليمية مجدداً، مُركزاً العداء في اتجاه واحد، وصف الاحتلال للنظام السوري الجديد بأنّه جهادي متطرف والتعامل معه بريبة تامة يكشف عن فزع من أيّ عقيدة وطنية سورية تتجاوز الصراعات الداخلية وتتبنّى خطاب المقاومة، هي تخشى أن يكون هذا التحوّل السياسي قد أفرز جيلاً عسكرياً يحمل قضية فلسطين في صلب عقيدته القتالية، لا مجرّد تكتيك سياسي عابر.

– الهتاف العاطفي القوي من جندي يمثّل جيش دولة، يكسر حاجز الخوف والردع، إنّه يبعث رسالة مفادها أنّ كيان الاحتلال لا يزال هو العدو الأبدي، بصرف النظر عن التغيرات السياسية الداخلية.

 

الرسالة غير المهنية.

إنّ مطالبة الاحتلال الإسرائيلي لدمشق بإدانة الهتافات العدوانية هي خطوة تفتقر إلى المهنية وتتجاوز حدود التعامل الدولي، فكيف يمكن لدولة أن تطلب من أخرى إدانة المشاعر الوطنية والعاطفية لجنودها تجاه قضية مركزية في المنطقة؟ هذه المطالبة هي محاولة يائسة لفرض رقابة على الروح الوطنية لدولةٍ أخرى، ومحاولة لمحو أيّ خطابٍ مقاوم، حتى لو كان مجرّد صوت، هذا يبرهن على أنّ الاحتلال لا يخشى القوة فحسب، بل يخشى الروح والكلمة التي توحد الشعوب.

 

إنّ مقاطع فيديو الجنود السوريين ليست مجرّد مادة إخبارية، إنّها وثيقة تاريخية، هي لحظة صفاء عاطفي تُظهر أنّ قضية غزّة هي البوصلة الأخلاقية التي ما تزال توجه تطلعات الشعوب العربية، حتى في خضم التحوّلات الكبرى، ردّ فعل الاحتلال الإسرائيلي العنيف يكشف أنّ الجدار العازل الحقيقي الذي ينهار ليس جداراً إسمنتياً، بل هو جدار الفصل النفسي والعقائدي الذي حاول الاحتلال بناءه بين الشعوب وقضيتها.

لقد أثبتت سوريا الجديدة، من خلال هتافات جنودها الوجدانية، أنّ طريق التحرير الداخلي يتقاطع حتماً مع طريق التحرير الأكبر، وأنّ صوت الصمود العربي، مهما طال عليه الأمد، ما يزال يمتلك القدرة على إثارة أعمق المخاوف لدى المحتل.

إنّ هذا التحوّل في الخطاب السوري يحمل دلالات استراتيجية وعقائدية عميقة تتجاوز مجرّد التعبير العاطفي، ويمكن تحليل دلالات تبني الجيش السوري الجديد للهتاف لغزّة ولقضية فلسطين من عدة زوايا:

 

1- الدلالة العقائدية والهوياتية.

– إعادة بناء الهوية الوطنية، بعد سنواتٍ من الحرب الأهلية والتقسيم الداخلي، يبدو أنّ النظام السوري الجديد يسعى لتوحيد صفوفه وبناء هوية وطنية جامعة، اختيار قضية فلسطين وغزة كشعارٍ للنصر هو محاولة لتعريف هذه الهوية الجديدة بأكثر القضايا إجماعاً في الوعي العربي، ممّا يمنح الجيش شرعية معنوية ورمزية كبيرة.

– القطيعة مع الماضي، هذا الخطاب يمثّل قطيعة جزئية مع العهد السابق الذي كان يوظف قضية المقاومة كأداةٍ سياسية متذبذبة. تبنيها كعقيدةٍ جديدة، ويشير إلى رغبةٍ في تأسيس مرحلة تكون فيها المواجهة مع الاحتلال جزءاً ثابتاً من المبدأ العسكري والوطني.

 

2- الدلالة السياسية والإقليمية.

– تغيير التموضع الإقليمي، سوريا، بعد سنواتٍ من العزلة النسبية، تحاول إعادة تموضع نفسها كلاعبٍ مركزي وفاعل في محور المقاومة الأوسع “إذا ما اعتُبر كذلك”، هذا الخطاب يرسل رسالة واضحة لحلفائها الإقليميين ولخصومها بأنّ سوريا الجديدة لن تكون دولة محايدة أو منسحبة من الصراع المركزي.

– كسب الشارع العربي، في ظل التطورات المتسارعة في المنطقة، وخاصةً بعد أحداث غزة الأخيرة، فإنّ أيّ نظامٍ يسعى لتعزيز شعبيته وكسب تأييد الشارع العربي يجد في التضامن الصريح مع غزّة أقوى ورقة، إنّه استثمار سياسي يهدف إلى استقطاب الدعم المعنوي والسياسي الشعبي.

 

3- الدلالة العسكرية والاستراتيجية.

– إعادة تعريف العدو، تحديد الاحتلال الإسرائيلي بوضوح أنّه “العدو” في احتفالات الجيش هو خطوة استراتيجية تهدف إلى توجيه بوصلة الجيش، بعد سنواتٍ من القتال الداخلي، من الضروري للجيش تحديد عدو خارجي واضح كهدفٍ عسكري نهائي.

– رفع الروح المعنوية، الهتافات والشعارات العدوانية كما وصفها الاحتلال الإسرائيلي تعمل على شحن الروح المعنوية للجنود وإعدادهم نفسياً لمواجهة محتملة، ممّا يخلق جيلاً يعتقد أن قضيته ليست داخلية فحسب، بل تمتد لتشمل القضايا القومية.

 

4- الدلالة الإنسانية والأخلاقية.

– الخيار الأخلاقي، هذا التحوّل يعكس أنّ قضية فلسطين لم تعد مجرّد قضية سياسية، بل هي خيار أخلاقي بالنسبة للكثيرين، الهتاف لغزّة هو اعتراف بالظلم الفادح الذي تعرّض له الفلسطينيون، وتعبير عن أنّ العدالة لا يمكن أن تتحقق في المنطقة إلا بزوال الاحتلال.

وباختصار، إنّ الخطاب الجديد للجيش السوري يمثّل محاولة لإعادة بناء الذات السورية من خلال بوابة القضية الفلسطينية، وهي محاولة تهدف إلى تعزيز الشرعية الداخلية وإعادة التموضع الإقليمي وتوجيه العقيدة العسكرية.

شارك

مقالات ذات صلة