مدونات
محمد كيّاري
مرَّ عام على سقوط نظام الأسد، وهذا العام بلا شكّ هو الأسرع في حياة الكثير من السوريين بلا مُنازع من بين 15 سنة قاسية بكلّ تفاصيلها عليهم.
يُخيَّل لي أنّ الأيام التي مضتْ تُشبه كثيراً الحقيبة؛ لكلٍّ منّا حقيبته التي تُناسب مأساته وكذلك حلمه، هذه الحقيبة هي ذاكرتنا، فلو قُدِّر لنا البحث والتفتيش في حقائب السوريين، لوجدنا أوزاناً ثقيلة من الخوف والألم والفقد، ومناديل كثيرة كانت تُلوِّح في نزوحٍ ولجوءٍ وغربةٍ وهجرةٍ.
و رغم أنّ قوانين المطارات تمنع نقل السوائل، إلّا أنّ حقائبنا كانت ممتلئة بدموعٍ تُذرف عند كلّ أذانٍ على شهيدٍ ومعتقَلٍ ومفقودٍ، ففي حقائب الأقربين، تجد زمناً خاصاً بكلّ قريبٍ يميّزه عن الآخرين. خالتي تبكي ابنها الأكبر إياد الذي قُتل تحت التعذيب في سجون الأسد، ثمّ تتذكّر ابنها الثاني علاء الذي استُشهد في معارك جسر الشغور.
عمّي يبكي حال ولده صالح، بعد أن أصابته شظيّة شوّهت عموده الفقري وجعلته عاجزاً. وبعد أن اعتاد حالةَ صالح، حدث زلزال تركيا سنة 2023 فأفقده ابنته سميّةَ وزوجها وأطفالهما، باستثناء طفلٍ كافح ليعيش ثلاثةَ أيامٍ تحت أنقاض أنطاكية. والغريب أنّ هذا الطفل الناجي هو من عائلة “الوحيد”، وسيُكمل حياته أيضاً وحيداً.
ليس من السهل أن تنسى عمّتي ابنها أحمد، الذي لفظ أنفاسه الأخيرة محمولاً إلى المشفى بعد أن خرجت أشلاؤه من بطنه إثر سقوط برميلٍ أسدي فوق المبنى الذي تحصّن به، وثّقت كاميرا الموبايل وجعَنا ووجعَ أحمد، ولم تترك لنا سبيلاً لنتواطأ مع النسيان فننسى أحمد.
بعد التحرير، كُتب لنا أن نلتقي مُجدّداً، وأن يُحاول كلٌّ منّا أن يبحث في عيون الآخر عن سنين مضتْ وآلام تراكمت إلى حدّ الاعتياد عليها.
الانكسار والقهر كانا سِمةً واضحةً في ملامح الجميع. هذا الزمنُ الثقيل فعل فعلتَه وامتصّ منّا أيّاماً كنّا نُخبّئ فيها شيئاً من سعادتنا، لكن الأسد أصرّ أن يحرق البلد ويستهلك أعمارنا في المعارك والتهجير وأمام نشرات الأخبار.
عاد عمّي إلى بيته، فوجدَ فتحةً كبيرةً في سقف إحدى الغرف، سبّبتها قذيفة. وقفَ تحت الفتحة وراح ينظر إلى السماء رافعاً يديه قائلاً: “من هذه الفتحة صرتُ أقربَ للسماء، فيا الله، لك الحمدُ على الثورة، ولك الحمدُ على الحريّة، ولك الحمدُ أنّني هنا في بيتي بعد كلّ هذه السنوات العجاف.”
مازن، ابن خالي، انتهت مغامراته وقصصه مع الأفاعي والعقارب، ولن يغضب مني لو قلتُ له مجدداً: أنّه ينتمي للزواحف، بسبب علاقته الوطيدة معها. مازن شوهد آخرَ مرة في سجن صيدنايا، ورحل بعد ذلك عن عالمنا دون أن نجد له أيَّ أثر.
كثيراً ما أحاول أن أبحث عن ماهيّة الزمن ومادّته وعناصره، مُستفيداً من ذاكرتي والتفاصيل القديمة والصور والأصوات والشخصيات التي كنتُ بقربها يوماً ما، ومقارناً مُعطياتِ الذاكرة مع وجوه وتفاصيل الحياة اليومية البسيطة للناس الذين قابلتهم منذ التحرير. عندئذٍ أستطيع أن أُشخّص الزمنَ ما قبل التحرير على أنّه وجعُ بطنٍ مُزمِن ظلّ يرافقنا طيلة الفترة الماضية؛ أحياناً يشتدّ إحساسُنا بالألم، وأحياناً نتوهّم أنّّنا تعوّدناه أو أنّنا نسيناه.
ورغم تعب الملامح من أثر السنين، إلّا أنّ الأمر المُبهج الذي صرتُ ألاحظه لدى أغلب الناس الذين ألتقيهم هو شعورهم بالراحة والخلاص والانعتاق من سلطةٍ قهريةٍ سرقت منهم حتى الوقت.
كأنّ الثامنَ من ديسمبر جاءَ لكلّ شخصٍ وبيتٍ وأسرةٍ وقريةٍ ومدينةٍ بحقائبَ جديدةٍ تليق بزمنٍ جديد.


