اقتصاد

سوريا بلا قيصر.. الدبلوماسية تنتصر والامتحان يبدأ

ديسمبر 11, 2025

سوريا بلا قيصر.. الدبلوماسية تنتصر والامتحان يبدأ

ما كان قانون قيصر، منذ إقراره، بنداً في سجّل العقوباتِ الأمريكيّة على سوريا، لكنه تحوّل لحجرٍ كبير ورمز طويل من حصارٍ سياسيّ واقتصادي على السوريين تحت حُكم نظام الأسد البائد.فسنوات الحرب والاستبداد والقتل الممنهج على السوريين، جعلت البلاد ساحة مغلقة، حُوصِرت فيها حركة الاقتصاد كما السياسة، ما جعل إمكانية إعادة الإعمار أو عودة المهجرين بعد تحرير سوريا معطلاً بشكلّ كامل.فمع اندلاع الثورة السورية 2011 وما رافقها من جرائم حرب ضد الإنسانية وصور مسربة من سجون الأسد البائد موثّقة، برز قيصر أقسى أشكال الردود الدولية على تلك الحقبة الدموية باعتباره كان عقوبة على الأسد وحاشيته “كبيئة خصبة لنشوئه”، صارت العقوبات عنواناً لعقود من الألم أكثر من أداة ضغط على الأسد الهارب ووالده حافظ الأسد منذ انقلابه على السلطة في 1970.هكذا، جاء التصويت الأخير في الكونغرس ليرفع العقوبات بالكامل، لا منحة أو مجاملة، بل تتويجاً لمرحلة جديدة أثبتت فيها الدولة السورية قدرتها على إدارة التغيير والانفتاح السياسي.بهذا القرار، تُطوى صفحة من أشد سنوات الحصار وطأة، وتبدأ أخرى لا تقل تعقيداً: كيف يمكن تحويل رفع قيصر من حدثٍ سياسي إلى فرصة لإعادة بناء الدولة والمجتمع؟ قانون قيصر.. من أداة ضغط على الأسد إلى عائق أمام سوريا الجديدةمنذ إقرار قيصر في الكونغرس عام 2019، صُمّم القانون ليكون السلاح الأشد قسوة بوجه نظام الأسد البائد، عبر محاصرة شبكات التمويل التي اعتمد عليها لعقود، ومنع أي جهة دولية أو محلية من التعامل اقتصادياً مع مؤسساته أو شركاته العسكرية والأمنية.ورغم استجابة القانون لصدمة العالم بصور المعتقلين المسرّبة، أصبح مع مرور السنوات يفرض تبعاتٍ تتجاوز النظام نفسه، لتطال المجتمع السوري واقتصاده، خصوصاً بعد تحرير سوريا من سلطة الأسد وانتقالها إلى إدارة الدولة السورية الجديدة.معركة “ردّ العدوان”، وما أعقبها من انهيار منظومة الأسد دفعت بالمجتمع الدولي إلى إعادة تقييم أدوات الضغط القديمة، فقد بدا واضحاً أن استمرار قيصر، رغم سقوط النظام البائد الذي فُرض لأجله، صار يعيق خطوات إعادة البناء، ويمنع تدفّق رأس المال اللازم لفتح المصانع وتشغيل البنية التحتية وتثبيت استقرار المدن المدمرة.هنا تحوّل القانون من أداة محاسبة إلى حاجزٍ يقف أمام مشاريع الإعمار، ويزيد من تكلفة استيراد المواد الأساسية، ويردع الشركات العالمية التي أبدت اهتماماً بالدخول إلى السوق السورية الجديدة لكنها اصطدمت بعقوبات مُقيِّدة.التقارير الاقتصادية الصادرة خلال العام الأخير أشارت إلى أن الإبقاء على قيصر كان سيعني تأجيل عودة عشرات آلاف العائلات المهجّرة، بسبب غياب الاستثمارات في السكن، وضعف قدرة الدولة على ترميم القطاع الصناعي، وتجمّد مشاريع الطاقة والنقل، كما حذّر خبراء أمريكيون وأوروبيون من أن القانون، بصيغته القديمة، لم يعد يخدم المصالح الغربية نفسها، لأنه يخلق فراغاً اقتصادياً يُتيح لقوى إقليمية أخرى أن تتقدّم دون حساب.لذلك، جاء قرار رفع القانون في لحظة مفصلية: سوريا تمتلك سلطة شرعية جديدة، ومؤسسات تشكّلت بعد التحرير، ومسار محاسبة قائم على العدالة، وفي المقابل اقتصادٌ يحتاج إلى إعادة تشغيل عاجلة، فنهاية قيصر هنا لم تكن تنازلاً دولياً، بل اعترافاً بأن مرحلة الضغط انتهت، وأن مرحلة إعادة البناء بدأت بالفعل على الأرض. دبلوماسية الشيباني والشرع: كيف تغيّرت لغة سوريا في واشنطندبلوماسية الشرع والشيباني لم تكن مجرد زيارات أو مباحثات عابرة، بل كانت قلب المعادلة بالنسبة لسوريا خطوة سياسية استراتيجية أعادت للدولة قراراتها وكرامتها على السواء، فالقرار الأخير برفع قانون قيصر لم يولّد هدنة سياسية فحسب، بل مهد لانتقال سوريا من خراب الحصار إلى مساحة فعلية للإعمار والتنمية.الأرقام تتحدّث بوضوح، فبحسب البنك الدولي، تكلفة إعادة إعمار البلاد بعد الحرب تقدر بـ 216 مليار دولار خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2024، نتيجة أضرار مباشرة في البنية التحتية والمباني السكنية وغير السكنية، هذا الرقم الضخم يؤكد أن رفع العقوبات ليس منحة أو هدية سياسية، بل هو شرط لا غنى عنه لبدء مرحلة إعادة إعمار واقتصاد حقيقي.قبل رفع قيصر، الاقتصاد السوري كان عاجزاً عن جذب أي استثمار جاد، فالناتج المحلي تراجع بشدّة، والبطالة والفقر ارتفعا، والحكومة الجديدة اليوم لا تطلب مساعدة استثنائية فحسب، بل تطرح مشروع إعادة إعمار شامل قائم على خطط واضحة، مؤسسات متخصصة، وإدارة شفافة عبر صندوق التنمية السوري الذي أُنشئ حديثاً لهذا الغرض.الدبلوماسية المتأنية والمقنعة التي قدمتها دمشق، جمعت بين الاعتراف بالدمار، والاستعداد لمحاسبة الماضي، واستراتيجية بناء للمستقبل، هذه المعادلة صنعت ثقة حقيقية لدى الخارج، فرفع قيصر لم يُمنح، بل نالته سوريا كدولة مسؤولة، تقدّم نفسها كشريك وليس كبضعة تائهة في حلبة صراعات.هذا المسار نتح عنه ليس فقط إعادة تأهيل علاقات سياسية، بل فتح باب الاستثمار، عودة الشركات، وممكنات لإعادة تشغيل مصانع، وتنفيذ مشاريع البنية التحتية، وتأهيل البنى الأساسية التي تحولت إلى ركام. رفع العقوبات وبوابة الإعمارلقد كان رفع قانون قيصر حدثاً ولحظةً تاريخية اقتصادية مفصلية تُعيدُ فتح أبواب أُغلقت لعقود، فمع تحرر سوريا من نظام الأسد وسقوط شبكات الفساد التي كانت تُفرغ أي مشروع من مضمونه، أصبح السؤال اليوم: ماذا يعني عملياً أن تتحرر سوريا من قيود العقوبات؟ الإجابة تبدأ من الاقتصاد أولاً.فإزالة القيود المالية والمصرفية تعني قدرة الدولة على استقطاب تحويلات مباشرة، واستثمارات، وتمويلات تنموية دون المرور بقنوات التفافية كانت تبتلع جزءاً كبيراً من القيمة، والبنوك السورية ستتمكن تدريجياً من العودة إلى النظام المالي العالمي، ما يخفّض تكلفة القروض ويفتح الباب أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة.فالقطاعات الأكثر تأهيلاً للانطلاق السريع بعد رفع العقوبات هي الطاقة، البناء، الزراعة، والنقل، وشركات أجنبية كانت تراقب المشهد بحذر بدأت، وفق المعطيات المتداولة، بإرسال وفود أولية لدراسة السوق، خصوصاً في قطاع الإسمنت والطاقة الشمسية، حيث يمكن للقطاع الخاص أن يحقق أرباحاً كبيرة خلال فترة قصيرة، فيما تستفيد الدولة من إعادة تشغيل البنية التحتية المتوقفة.أما الاستثمارات السورية في الخارج -بمليارات الدولارات- فهي الأخرى مرشحة للعودة تدريجياً، بعد أن كانت تخشى الاصطدام بالحظر أو المساءلة.بهذا المعنى، يشكل رفع العقوبات بوابة واقعية للإعمار، لكنه أيضاً اختبار لمدى قدرة الدولة على إدارة مرحلة اقتصادية حساسة تتطلب قراراً شجاعاً، ورقابة صارمة، وصياغة نموذج تنموي جديد لا يكرر أخطاء العقود الماضية. بين الرساميل وعودة السوريينرغم أن رفع قانون قيصر يُقرأ غالباً كبوابة سياسية واقتصادية، إلا أن جوهره اجتماعي بالدرجة الأولى.فالمحللون الذين تابعوا النقاشات داخل الكونغرس وخارجه يرون أن القرار لم يولد من فراغ، بل جاء بعد إدراك واسع بأن العقوبات الواسعة لم تعد تحقق هدفها الأصلي، بل تحولت إلى عبء مباشر على السوريين أنفسهم، ووقع أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر خلال سنوات الحصار والحرب، هذه الأرقام دفعت سياسيين غربيين إلى الاعتراف بأن “الضغط الاقتصادي لم يعد يضرب النظام السابق، بل يعمّق معاناة الشعب”، كما ورد في عدة جلسات استماع خلال عام 2025.كان واضحاً أن استمرار قيصر سيؤخر عودة المهجّرين لسنوات إضافية، نظراً لإعاقة مشاريع السكن والطاقة وإعادة الخدمات الأساسية، حيث وُصِف القانون بأنه “أصبح حاجزاً أمام الإعمار أكثر منه أداة محاسبة”، وهي عبارة تكررت في تقارير اقتصادية تحدثت عن تجميد الاستثمارات وخوف الشركات من الدخول إلى السوق السورية رغم التغيير السياسي الجذري في البلاد.من جهتها، تعاملت دمشق مع رفع العقوبات قبل قيصر، باعتبارها محطة مفصلية في مسار إعادة بناء المجتمع قبل الاقتصاد، فالرسالة السياسية واضحة: العالم بات يعترف أن السوريين لا يمكن أن يباشروا بناء دولتهم الجديدة وهم مكبلين بأدوات صُممت في زمن نظام سقط وانتهى. اليوم، فتح الباب أمام الرساميل والاستثمارات ليس مجرد تحرك اقتصادي، بل خطوة تمنح العائلات فرصة العودة، وتمنح المجتمع فرصة تحويل النصر العسكري والدبلوماسي إلى استقرار معيشي حقيقي.. بهذا المعنى، يصبح رفع قيصر إعلاناً لبداية مرحلة يتقدم فيها الإنسان السوري إلى مركز القرار من جديد.برفع قانون قيصر، تدخل سوريا مرحلة جديدة لا تُقاس بالتصريحات بقدر ما تُقاس بما يعيشه المواطن على الأرض، فالتحدي الآن هو تحويل هذا القرار من مكسب سياسي إلى فرصة لإعادة الإعمار وعودة المهجّرين واستعادة عجلة الاقتصاد.
شارك

مقالات ذات صلة