مقالات سوريا

الذاكرة التي لم تغادر الزنزانة

ديسمبر 10, 2025

الذاكرة التي لم تغادر الزنزانة

قحطان العساف

خرجتُ من المعتقل ولم يخرج منّي.. ذاكرة لا تنام في حضرة الجلاد، مؤلمٌ ذاك القبر الذي يُسمّى زنزانة.. تلك العبارة ليست مجازاً لغوياً يستخدمه السوريون لتلطيف قسوة الواقع، بل هي الحقيقة العارية كما عاشها آلاف المعتقلين في سجون الأسد، وكما لا تزال تسكن في ذاكرة من خرجوا أحياء من أبوابٍ ظنّوا يوماً أنّها لا تُفتح إلا للموت. 

هنا محاولة لالتقاط جزء من وجع ذلك العالم السفلي، أصف فيه رحلة مَن خرج من المعتقل، لكن المعتقل لم يخرج منه. 

ذاكرتي التي لا تنام تجسّد عذاب معتقلٍ ما زال يعيش داخل زنزانته لم أكن أتوقع أن يتحوّل جسدي إلى دفترٍ تدون عليه الأيام ما لا يُمحى، ولا أن تتحوّل ذاكرتي إلى أرشيف صوتي يعيد تشغيل الصراخ ذاته كلّ ليلة. 

بعد خروجي من سجون الأسد بسنواتٍ ما زلت ألمس أثر الزنزانة على صباحاته قبل لياليه. لا سيما عندما أشاهد قصص المعتقلين الخارجين حديثاً. إنّ رطوبة الجدران ما تزال معلّقة في صدري، وإنّ رائحة العفن لم تغادر أنفي رغم عبوري عشرات المدن والبلدان بعد خروجي. 

كنت أعيش في قبرٍ تحت الأرض، واليوم أعيش فوق الأرض، لكن القبر ما زال داخلي، إذ إن الزنزانة مكان يتقلص حتى يبتلعك. الزنزانة التي وُضعت فيها لم يكن بإمكانها أن تتسع لخمسة رجال، لكنّها كانت تضم أكثر من عشرين. كان التنفس ترفاً، والحركة حلماً، والنوم رفاهية لا تنتمي إلى هذا العالم. في كلّ ليلةٍ كان المحشورون في ذلك الصندوق البشري يحاولون اختلاق طرق لكي لا يسحقوا بعضهم، وكأنّهم يتدربون على كيفية النجاة في مساحة لا تصلح للعيش. 

كنّا نصطف مثل أعواد الثقاب. إن أردت أن تغيّر وضعية جسدك، فعليك انتظار أن يحدث ذلك بشكلٍ جماعي، لأنّ الحركة الفردية مستحيلة. الجدران كانت تقترب منّا كلّ يوم، حتى أصبحت أشعر أنّها تلتصق بظهري وصدرِي في الوقت ذاته. 

لم يكن ضوء الشمس يصل إلى أعيننا، ولم نكن نعرف وقت الفجر أو المساء إلا عندما يتغير مزاج الجلاد. الزمن كان مائعاً، ضائعاً، وكأنّه يتبخر داخل تلك الغرفة التي لا تعرف إلا السواد. عندما يصبح الألم هو اللغة الوحيدة كلّ شيء في ذلك المكان كان مصمماً ليكسر الإنسان قبل جسده. الضرب لم يكن إجراءً عقابياً، بل طقساً يومياً يُمارس بتفنّن. الصراخ في الممرات كان موسيقى المكان، والسياط طريقة التخاطب بين السجّان وسكان القبور. 

أحدثكم عن جزءٍ من تلك التفاصيل التي لا يرغب العقل في استيعابها، كانوا يجبروننا على الوقوف ساعات طويلة، حتى تتورّم أقدامنا وتصبح مثل أكياس ماء. كانوا يعلّقون بعضنا في السقف، ويتركونه يتأرجح مثل جثة. بعض السجناء كانوا يسقطون على الأرض، لا لأنّهم تعبوا… بل لأنّهم ماتوا. لكن العذاب الجسدي، رغم شدته، لم يكن الأكثر قسوة. الأشدّ ألماً كان الانتظار انتظار التحقيق، انتظار الضرب، انتظار الوجبة التي لا تشبه الطعام، انتظار أن يُفتح الباب ربما ليُسحب أحدهم دون عودة. 

ذلك الانتظار، كان يفتك بالأعصاب أكثر ممّا تفتك العصا بالعظام. أحمل معي ذاكرة لا تُطوى بعد خروجي، لم أستطع النوم في غرفةٍ مظلمة. لم أعد قادراً على إغلاق الباب خلفي. كنت أستيقظ مفزوعاً من أدنى صوت، وكأنّ أحدهم يصرخ في الممر من جديد. 

عندما أمر قرب أيّ جدارٍ رطب، أتجمد في مكاني؛ تشدني الذاكرة إلى رطوبة الزنزانة. أحياناً أشم رائحة الخبز، فأتذكر كيف كان الجوع يجعل رائحة الخبز حلماً. أحياناً أسمع ضحكة طفل، فأبكي.. لأنّنا كنّا ننسى أصوات الأطفال هناك، وكأنّ العالم الخارجي اختفى. 

الذكرى الأخطر كانت (لحظة الحرية)، لا لأنّها جميلة، بل لأنّها جاءت محمولة على خوفٍ خالص. عندما فتح السجان الباب وقال لي اخرج… اعتقدت أنّها خدعة. لم أصدق إلا عندما وجدت نفسي في الشارع. يومها شعرت بثلاثة أشياء في وقتٍ واحد الدهشة، الرعب، والفراغ. خارج السجن… وسجنٌ آخر في الداخل إنّ التحرّر من القيود لم يعني التحرر من آثارها. أعيش اليوم حياة طبيعية ظاهرياً، لكنّي أشعر دائماً أنّ الزنزانة تراقبني من داخلي. الدمعة التي تظهر على أطراف عيني حين أسمع كلمة معتقل، الارتجافة الخفيفة عندما يلمس أحدهم كتفي من الخلف، ارتباكي عندما أنام في مكانٍ ضيق… كلها شواهد على أنّ السجن لم ينته. 

أسأل نفسي دائماً هل سيأتي يوم أنسى فيه؟ ثمّ أجيب ربما… لكن الذاكرة في سجون الأسد لا تُمحى، هي قطعة من الروح لا يمكن دفنها. هذ الكلمات ليست سوى صورة واحدة من صور الألم التي عاشها آلاف السوريين. ورغم مرور السنوات، ما تزال تلك الزنازين تحفر في ذاكرة البلاد جرحاً مفتوحاً، لا يندمل إلا بالعدالة، وبأن يسمع العالم صرخة من خرجوا من القبور ليشهدوا على ما رأوه في العتمة.

شارك

مقالات ذات صلة