مجتمع

ريلز الأسد.. تسلية تمحو الجريمة

ديسمبر 9, 2025

ريلز الأسد.. تسلية تمحو الجريمة

هدى نصرالله 

 

الموقف الأخلاقيّ هو البوصلة الوحيدة للحكم على الثورة السورية، رافضةً الحجّة الواهية لفصل السياسة عن الحياة اليومية، وقد كتب المقال قبل تسريبات الفيديوهات الصادمة، لنجد اليوم في محتواه ضرورةً ملحّةً تتناغم مع هذه التسريبات، إذ أطرح حجةً مفادها أنّ السياسة والحياة متلازمتان لا انفصام بينهما. مع تسريبات فيديوهات، التي عرضت المجرم بشار الأسد يتجول بين الأحياء المدمرة، يلعن صمود الغوطة ويظهر الاشمئزاز من وضع البلد ومن عناصره الذين يظهرون الذلّ لنيل رضاه كإلهٍ للشرّ ويقدّسونه، وجد كثيرون متنفساً في “الكوميديا السوداء”. إذ تحوّلت بعض المشاهد المقرفة للأسد ولونا الشبل إلى مادةٍ للسخرية والاستهزاء، كردّ فعل طبيعيّ للتخفيف من وطأة الإجرام.

 لكن نرى من خلال هذا المقال خطراً في هذا التناول الكوميديّ. إنّ الانخراط في السخرية من التسريبات يهدّد بفصل شخصية المجرم عن حجم جريمته. فبوصفه بالـ “أهبل” أو “المجنون”، ننزع عن أفعاله طابع الإجرام الممنهج ونقدّم له مخرجاً مجانيًّا لتبرير كلّ الفظائع بأنّها ناتجة عن حالة نفسية أو ذهنية، لا عن قرار سياسيّ إجراميّ متعمد.

من هنا، تأتي ضرورة مقاطعة شاملة لهذه الكوميديا السوداء؛ لأنّه لا يجوز أن نفصل بشار الأسد، بشخصيته وأقواله، عن تاريخه الإجراميّ. يجب أن يبقى التركيز على صورته الحقيقية: صورة الرئيس الذي صنع الخراب بنفسه، ويتنقل بين ضحاياه وهو يشعر بالقرف منهم ومن حال البلد الذي أوصله إليه.

إنّ المقاطعة هي الإبقاء على الجريمة في حجمها التاريخيّ، ورفض لمحاولة فصل السياسة عن نتائجها المأساوية في الحياة اليومية، وهو ما يسعى النظام لتحقيقه باستمرار.

وتفصّل المقالة شبكة التبرير المعقّدة التي تمتد من الإعلام الرسميّ والمثقف الموالي والاحتلال الناعم، وصولاً إلى التحدي الأعمق المتمثّل في تسطيح الذاكرة الرقمية عبر الخوارزميات والحنين للجلاد. ويكمن الانتصار النهائيّ في خوض صراع قيميّ شامل يهدف إلى حراسة الذاكرة وتطهير الإعلام المستقبليّ عبر تطبيق مبدأ الإبعاد المحقّ، لضمان عدم تكرار الإجرام. 

على بعد ساعات قليلة من الذكرى الأولى لسقوط نظام الأسد، وهروب بشار الأسد وعائلته. قبل الحدث المفصليّ في التاريخ السوريّ عموماً، وحالة الثورة السورية خصوصاً، كان المشهد أكثر شموليةً: طرف النظام وطائفته الأسدية، وعلى الطرف الآخر المعارضة السورية بتشكيلاتها المتفرعة والمختلفة، وبكثيرٍ من الأحيان متنازعةً. على هذه التصنيفات، كانت عملية التفرقة لمعرفة الموقف الأخلاقيّ السياسيّ من المجزرة الحية التي ترتكب بحقّ السوريين، أسهل من بعد السقوط.

صورة شاملة، لا تقبل التجزئة، نظام الأسد، بسلطته الأعلى، وصولاً لأصغر دوائره، مجرم. آلة الموت، التعذيب، والاختفاء القسريّ لا تتوقف، لا بقرار دوليّ، ولا عقوبات سياسية أو اقتصادية، إذ لا حدودية تعرفها منظومة الإجرام الأسديّ. معرفة الموقف الأخلاقيّ والسياسيّ ضرورة، إما للتواصل والبناء أو القطيعة والبتر، بناء علاقة إنسانية فيها من روابط التضامن والتعاطف، وكسر مركزية وقوقعة المدن على نفسها، والبتر لكلّ أنواع التواصل في الحاضر أو المستقبل مع مؤيدي النظام. يُبنى على أخلاقيات موقفك من الإجرام الأسديّ -أياً كانت الجنسية- مقياساً لتعاملك مع باقي القضايا السياسية/ الإنسانية. الارتباط الإنسانيّ بالقضايا واحد، لا يتجزأ، السياسة تتقاطع مع الفنّ، الأدب، الحياة اليومية، العاطفية، واللغة. وعلى الأكيد في ميزان الحقّ والباطل، الصواب والخطأ.

 

دور الإعلام الرسميّ، الشريك اللغويّ في الجريمة.

لأنّ اللغة جزء من الحرب السورية، استخدمها الأسد بحرفية تلائم سياساته بالتعامل مع المجتمعات الداعمة له، وخلق سرديات للمظلومية والنصر، ومبررات للحرب والإبادة. واقع كلمة “إرهابيون” لم يكن حيادياً بتأثيره على مجتمعات المعارضة السورية، كما استثمرته الطائفة الأسدية في مناهجها التشبيحية. ونتصل هنا بالنقطة السابقة عن علاقة السياسة بالإنسانية، تداولت فئة المثقفين والممثلين، وأصحاب التوجهات الداعمة لآلة الإجرام الأسديّ، وأوسع من ذلك؛ محور المقاومة حجّة مطلب الثورة السورية الأول: “الحرية” بأنّهم أحرار في تحيزهم السياسيّ. فاعلون بذلك تفكيكاً لشبكة سياسية واحدة، قيمتها الاجتماعية والأخلاقية: صون كرامة وحياة الإنسان، فتدخل المجزرة وسيل الدماء السورية، ضمن مهزلة العبث في الخطّ الإنسانيّ الواضح دعم الضحية، تصديق روايتها، إنكار سردية النظام ومعاداته إلا أنّهم اختاروا أغبى المبررات الأخلاقية لتبرئة النظام السوريّ من دماء ضحاياه. تخضع شهادتك العلمية، مكانتك الاجتماعية، شهرتك الفنية، في اختبار الذكاء أيضاً، إذ لا يعقل، وبالطبع غير عاقل من اختار طرف دعم وتأييد لمحاور القتل والإبادة.

في سباقٍ صحفيّ وإعلاميّ، سجلّت قناة الإخبارية السورية وقناة سما (الدنيا) وغيرها من منصات المحور، محور المقاومة، أبشع عملية تزوير للحقيقة، حقيقة المجزرة. إذ لم يغب دور الإعلام الموالي للنظام السوريّ عن دوره في تبرئة وتبرير القتل، بل كان ضمن آلة القتل نفسها. العمل على تبرئة وتبييض سجلّ النظام تهمة أخلاقية، وانتهاك صحفيّ، أمّا الذي حصل في المشهد السوريّ، فهو تورط الإعلام “الحكوميّ” في التحريض على فعل الإبادة المفتوحة، لكسب حرب ضدّ “الإرهابين”، وانتصار مزعوم لكيان الدولة “الأسدية”. 

تجاوز دور الإعلام الحكوميّ وظيفته التقليدية بنقل الخبر، أو التحريض. ظهر عدد من إعلاميي النظام والمحور بمقاطع محتواها التباهي باستخدام السلاح والصور مع المقاتلين على جبهات القتال. شكّلت المعارك التي دارت حول العاصمة دمشق ومدينة حلب، نقلةً نوعيةً في التغطية الإعلامية الحربية للأحداث، بالترويج على أنّها الحاسمة للقضاء على معاقل الإرهاب، رافقتها حملات حشد، هدفها دمج الرأي العامّ بالحملة العسكرية، وتصوير مناطق سيطرة النظام بلونٍ واحد داعم مؤيد لسلطة الأسد. 

بسياقٍ متصل بالحديث عن الدور الإعلاميّ وغياب المهنية الأخلاقية، دخلت روسيا عسكرياً وإعلامياً بقوة لحسم المعركة لصالحها وصالح النظام، وغطت الدخول بمنهجية الترويج لرواية “مؤامرة غربية، إرهابية”، تحشد من خلالها الرأي والدعم العسكريّ السياسيّ. حيث ركزت الآلة الإعلامية الروسية على شيطنة الدفاع المدنيّ السوريّ (الخوذ البيضاء) وتصويره للعالم على أنّه جناح لجماعات إرهابية متطرفة، مبررةً بذلك قصفها لمقراتهم، وأماكن عملهم في إنقاذ المدنيين المتضررين نتيجة القصف الروسيّ لمراكز الحياة في كثيرٍ من المدن السورية مثل معرة النعمان في محافظة إدلب، ومدينة حلب. 

كيف نسج حلفاء النظام الغطاء الشرعيّ الأخلاقيّ لجرائمهم. 

لم تسقط ورقة الأقليات بعيداً عن ساحة مطامع الأطراف الموالية للنظام السوريّ، استغلت روسيا حربها بدعاية الدفاع عن الديانة المسيحية بوصفها للثورة السورية على أنّها خطر وتهديد على المسيحيين. انتشرت في عام 2015 صورة لرجل دين مسيحيّ يبارك الطائرات الروسية قبل انطلاقها لقصف أماكن وجود المدنيين في مدن سيطرة المعارضة السورية.

وبنظرة أقرب على عدو نشترك معه الحدود، كسرت مليشيا حزب الله أكذوبة الحدود، وانضمت لصفوف النظام كفاعل أساسي متقدّم في إنجازه العسكريّ. تجلّى تدخل الحزب على الأرض عام 2013 في معارك مدينة القصير، ليستمرّ بعد ذلك الوجود العسكريّ المدعوم بمليشيات عابرة للحدود حجّتها حماية “المراقد الشيعية المقدسة” بنت على فرضيتها تأجيجاً طائفياً. 

لم يكتف حزب الله بتبرير وجوده باستغلال البعد الطائفيّ، بل عمد إلى حجة مركزية، أكثر استراتيجيةً وأهميةً؛ امتداد فعل المقاومة إلى سوريا، بتقديم الثورة السورية كمؤامرة أمريكية إسرائيلية، هدفها كسر محور المقاومة الممتد من طهران إلى بيروت عبر دمشق. سقوط النظام يعني سقوط وقطع طرق الإمداد عن حزب الله، بالتالي خدمةً مباشرةً إلى الاحتلال، سهلت بهذه الحجّة “الحشد الجهاديّ” للقتال في سوريا. 

بالطبع تجسّدت مقاومة حزب الله للاحتلال بحصار مدينة مضايا والزبداني وتهجير سكان المدينتين، وإغراق البلد بمصانع المخدرات والحشيش، واستعمال طرق الإمداد “لدعم المقاومة ومحور الممانعة” بتهريب كميات هائلة من حبوب الكبتاغون إلى الدول المجاورة، أهمها الأردن، ودول الخليج. باختصار معركة حزب الله في سوريا معركة وجودية، لاستمرار تمويل محور الممانعة الواصل من دمشق، بيروت، حتى طهران، إذ شكّل الحزب الذراع العسكريّ لإيران في سوريا، وتشارك نفس الحجج والغطاء الإعلاميّ لتمرير مشروع الاحتلال الناعم والتغيير الديموغرافيّ للبلاد.

من الممكن وضع تعريف يتناسب مع سياق المقال والحدث في سوريا قبل سقوط نظام الأسد، حول مصطلح “الاحتلال الناعم”: هو استراتيجية طويلة المدى اتبعها المحور الإيرانيّ في سوريا، تهدف إلى ترسيخ النفوذ السياسيّ والثقافيّ والديموغرافيّ عبر أدوات غير عسكرية، بعيداً عن الاحتلال العسكريّ المباشر. ويتمثل هذا الاحتلال إجرائياً في مجموعة من الآليات المتوازية، أبرزها: الاستيلاء الديموغرافيّ عن طريق شراء الممتلكات والعقارات في المناطق الحيوية والحساسة (كأحياء دمشق القديمة ومحيط المقامات الدينية) لإحداث تغيير بطيء وممنهج في التركيبة السكانية. 

التغلغل الثقافيّ الدينيّ عبر توظيف المراكز الدينية (مثل مقام السيدة زينب) كـ”بوابة” لتكثيف الوجود البشريّ الإيرانيّ ومرتزقته من خلال شعائر الحجّ والزيارة، وتمرير الأجندة الطائفية عبر الممارسات العلنية كـ”اللطميات والعبارات الطائفية” في الأماكن العامة. 

الذراع الإعلاميّ والروائيّ من خلال استخدام القنوات الإعلامية المحلية ومواقع التواصل الاجتماعيّ التابعة لحزب الله وإيران وإعلام النظام لتبرير هذا الوجود بحجة مقاومة الاحتلال. تبسيطاً لمحاولة التعريف، يمكن أن يهدف “الاحتلال الناعم” إلى تحويل النفوذ السياسيّ الطارئ غير الضروريّ، وغير المبرر إلى وجود حضاريّ واجتماعيّ ثابت يخدم المصالح الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة.

مع تطور وتصاعد دور السوشيال ميديا وصناعة المحتوى الرقميّ، وسرعة وصول وتأثير المعلومات المتوفرة على خوارزميات التصفح العالمية، اعتمدت آلة النظام السوريّ ومحوره على استراتيجية دعائية مزدوجة ومعقّدة لتضليل الرأي العامّ. تعتمد هذه الاستراتيجية على آليتين رئيسيتين تعملان بالتوازي لغسل صورة النظام وتبرير جرائم أذرعه. أولاً، الدعاية التجميلية (Cosmetic Propaganda): يتمّ تفعيل حملات رقمية واسعة النطاق تركز على الترويج السياحيّ واستعادة صورة “الحياة الطبيعية” في مناطق سيطرة النظام، عبر محتوى بصريّ احترافيّ مصمم خصيصاً للتنقل عبر الخوارزميات (كالـTikTok والـReels). 

هذا الترويج يحدث بشكلٍ صارخ ومتعمد رغم استمرار القصف العنيف على محافظة مثل إدلب وأرياف حلب، بهدف خلق انفصام معرفيّ لدى الجمهور الدوليّ. الهدف هو تبييض صورة النظام عبر التناقض عندما يبحث المستخدم عن “سوريا”، تظهر له صور الأسواق المزدحمة والحارات التاريخية القديمة بدلاً من الدمار، ممّا يشتت التركيز عن الجرائم ويقلل من تعاطف العالم. ثانياً، التبرير الأخلاقيّ والاستغلال السياسيّ: يتمّ توظيف دور “المثقف المبرر” والمحلل الإعلاميّ التابع للمحور بشكلٍ مكثف لتسويق جرائم حزب الله والمليشيات الأخرى. 

يتمّ هذا التبرير بخبث عبر ربط هذه الجرائم زوراً بقضايا إقليمية مقدسة، مثل الادعاء الكاذب بـ”المشاركة في قتال إسرائيل في غزة”. يهدف هذا الربط الاستراتيجيّ إلى غسل السجلّ الإجراميّ لهذه المليشيات وتحويل القتل والحصار في مدن مثل القصير والزبداني إلى “مقاومة مشروعة”، مستغلاً تعاطف الجمهور العربيّ مع القضية الفلسطينية لتمرير رسائل الخضوع وتغيير البوصلة الأخلاقية.

لهذه الآلة الإعلامية؛ متعددة ومنتشرة الأذرع، كان لا بدّ من لمسة “تأنسن” العمل. تعطيه صفة الإنسانية والظهور في ساحات المجتمع المدنيّ ومنظمات الإنسان، ومن أتقن الدور مثل أسماء الأسد!

لتجميل هذه الصورة، تمّ تفعيل دور أسماء الأسد “واجهة إنسانية” للنظام، حيث عملت على تسييس المنظمات واستغلال قصص الضحايا لقلب الحقائق واتهام “الإرهابيين” بالمسؤولية. هذا التكتيك كان ضرورياً لأنّ إعلام الثورة والدفاع المدنيّ نجح في إيصال صور الفظائع إلى العالمية، مشكّلاً سداً منيعاً أجبر النظام على اللجوء إلى التزييف بدلاً من الإنكار الصريح.

 

 

تحدي الذاكرة في “ما بعد التحرير”، وتنميط صورة الجلاد.

بعد تفكيك شبكة التبرير المعقدة التي نسجها الإعلام الرسميّ والمثقف الموالي والمحور الإقليميّ عبر آليات الاحتلال الناعم، قد يظنّ أنّ الموقف الأخلاقيّ للسوريين بات في مأمنٍ من محاولات التشويه، لكنّ حقيقة الموقف الأخلاقيّ الذي يحاكم آلة الإجرام لا يجب أن يتوقف عند السقوط السياسيّ للدكتاتور. فبينما كان سلاح السخرية والفكاهة أمراً ملهماً وضرورياً في بدايات الثورة لنزع هالة الخوف وهيبة الدكتاتور، يواجه هذا الموقف الأخلاقيّ اليوم، في مرحلة ما بعد التحرير، تحدياً جديداً وأكثر دهاءً: تحدي الذاكرة الرقمية وتنميط صورة الجلاد. إنّ هذه الفيديوهات السريعة (الريلز) تكتسب قوتها من عامل المفارقة المضحكة (كاستخدام أغنية ذات طابع جادّ مع صور بشار الأسد المسربة من قصره ليلة السقوط مثلاً)، لكنّ خطورتها تكمن في دورها النفسيّ المباشر؛ حيث تعمل عبر التسطيح المعرفيّ على تجاوز النقد العقليّ للمشاهد. 

هذا التكرار البصريّ يساهم في إزالة التحسس العاطفيّ، ممّا يقلل من حدة الغضب الأخلاقيّ ويزيل هالة التقزز تجاه سجلّه الإجراميّ، ليصبح الطاغية شخصيةً كوميديةً يمكن التعامل معها عاطفياً. وما يزيد من خطورة هذا التحدي هو وجود آلية ممنهجة وموازية؛ حيث يتمّ تمرير مقاطع تحظى بتفاعلٍ كبير تروّج للحنين للجلاد والدكتاتور بشكلٍ مباشر. 

هذه الرواية تستخدم آلية “تسليح الحنين”، حيث تستغل الميل الإنسانيّ نحو الاستقرار لتسوية جرائم الماضي بـ “واقع اليوم بعد السقوط”. هذا التلاعب يمثل خطراً حقيقياً على الذاكرة السياسية لجيل زد والأجيال اللاحقة، ليس فقط لأنّها تقع ضحيةً لهذا التغلغل النفسيّ، ولكن لأنّ الخوارزميات على منصات مثل تيك توك وإنستغرام تنحاز إلى تفضيل هذا المحتوى الذي يحصد الضحك والحنين، ممّا يفشل المعيار الأخلاقيّ ويضمن أنّ الرواية السطحية والمسوّية للجريمة هي الرواية الأكثر وصولاً وانتشاراً.

وحديثنا هنا في عمق فضاء واسع من (Reels)، يتبلور الخطر السياسيّ على الذاكرة المستقبلية للسوريين والسوريات، ليس فقط من المحتوى المرئيّ، بل على مستوى التغلغل اللغويّ الموسيقيّ اللاوعيّ. فالانتشار السريع لهذه المقاطع على شكل ريلز يفرض علينا تكراراً سمعياً لأغان وعبارات تعود لزمن النظام، ممّا يساهم في إعادة تدوير لغة القمع وموسيقاه بشكل عفويّ وغير مقصود. 

ما يجب ذكره ضرورةً؛ أنّ النظام استحدث نمطاً موسيقياً خاصاً فيه وبفرق جيشه، أبرزها الفرقة الرابعة والحرس الجمهوريّ، أكثرهم توحشاً وإجراماً. حيث استخدم نمطه الموسيقيّ في حفلات لدعمه، ومرافقة لإعلامييه في كثيرٍ من فيديوهات لهم يغطون مجازر النظام. يضاف إلى استخدامات مماثلة في الهبوط الأخلاقيّ عند قصف المدنيين. محاولتنا من خلال هذه الفقرة طرح أهمية المقاطعة اللغوية والموسيقية الصارمة لكلّ ما يخصّ حقبة النظام ورموزه. إنّ الواجب الأخلاقيّ لحماية الذاكرة يقتضي خلق “فضاء سمعيّ وثقافيّ نظيف”، حيث يجب أن يكون الرفض شاملاً لكلّ ما يساهم في تطبيع تلك الحقبة، بما في ذلك التسلل البسيط عبر نغمات الريلز أو العبارات المتداولة.

في نقاشٍ مفتوح، طرحت عدداً من الأسئلة على الناشط الإعلاميّ والمختصّ في علم السياسة الأستاذ ماجد عبد النور. تمحورت الأسئلة حول فكرة الخطر من تنميط صورة الدكتاتور على الأجيال القادمة، وهل يمكن لها أن تمحي صورته الحقيقية وتبقي صورة الرئيس “الأهبل”! يتفق عبد النور على أنّ “تنميط صورة الجلاد إلى شخصية مضحكة” يساهم على المدى الطويل في جعله يبدو وكأنّه شخص “أهبل وغير مسؤول عن الجرائم” التي ارتُكبت في البلاد. لكنّه يقلل من خطورة هذا التهديد، معوّلاً على قدرتين اثنتين: أولاً: يرى أنّ ضخامة ووحشية الجرائم التي ارتكبها بشار الأسد تتجاوز قدرة أيّ محتوى تسطيحيّ على طيّها أو نسيانها. وثانياً: يعوّل على قدرة الأجيال الجديدة (جيل زد وما بعده) على البحث والتحقق.

نقطة الالتقاء والتشابك: المبادئ قبل السخرية.

هذا التفاؤل الحذر الذي يقدّمه عبد النور يضعنا أمام نقطة التقاء وتشابك حيوية مع أطروحة مقالتنا اليوم. فعبد النور يذكر بوضوح أنّ السخرية من صورته في بدايات الثورة كانت مترابطةً دوماً بمجموعة من القيم والمبادئ التي أطلقتها الثورة. ومن هنا يتأكد الفرق الجوهريّ: فالخطر في مقاطع الريلز اليوم ليس في السخرية ذاتها، بل في تجردها من هذا الإطار الأخلاقيّ والقيميّ، ممّا يجعلها سخريةً فارغةً تساهم في التسطيح بدل المقاومة. وهنا تبرز أهمية هذا المقال الذي نطرحه اليوم، كأداةٍ للتحريض الأخلاقيّ: فإذا كان الجيل الجديد يمتلك نية البحث عن الحقيقة (كما يأمل عبد النور)، فإنّ هدفنا الأول هو تحريضهم على البحث أولاً عن صورته الحقيقية الموثقة كدكتاتور ومجرم. بعد ذلك، يمكنهم الانتقال إلى السخرية من صورته انطلاقاً من معرفةٍ راسخة ووعيٍ ثابت بحجم إجرامه، لضمان أن تكون سخرية الأجيال القادمة سخرية مقاومة ومبنيةً على مبادئ، وليست مجرّد تداول لمقاطع مفرغة.

 

الواجب الأخلاقيّ المضاد، والمقاومة المستمرة لداء “الأسدية”.

في مواجهة هذه الشبكة المعقّدة من التبرير والإجرام، التي امتدت من لغة الإعلام الرسميّ والمثقف الموالي إلى آليات الاحتلال الناعم، وصولاً إلى التحدي الأعمق المتمثل في تسطيح الذاكرة الرقمية عبر آليات نفسية وخوارزمية؛ يبرز الواجب الأخلاقيّ المضاد كخطّ الدفاع الأخير والأهمّ. إنّه ليس مجرّد التزام سياسيّ، بل هو صراع قيميّ ووجوديّ يقع على عاتق الإعلام المستقلّ والمفكرين الأحرار والمواطنين الواعين. 

إنّ الانتصار في هذه المعركة يتطلّب مقاومةً لا تقتصر على الوثائق، بل تخوض صراعاً ثقافياً شاملاً يبدأ بالمقاطعة اللغوية والموسيقية الصارمة لكلّ ما يخصّ حقبة النظام ورموزه، ويجب أن يتمّ ذلك بالتوازي مع حراسة الذاكرة وتوثيق الحقيقة التاريخية للجرائم ومقاومة كلّ محاولات تسوية الماضي التي تسعى لخطف الذاكرة العاطفية وزرع الحنين للجلاد. 

ولتحقيق هذا الهدف على المستوى المؤسساتيّ، يقع على عاتقنا بعد انتصار الثورة واجب مزدوج: فمن جهة، يجب الحفاظ على الوجود الصلب للإعلام المستقلّ الحقيقيّ الذي ينقل الحقيقة ويقاوم التسطيح، ومن جهة أخرى، يجب العمل على تأمين حيّز واسع ومحايد ضمن الإعلام الحكوميّ المستقبليّ. هذا العمل يتطلّب تطبيق مبدأ الإبعاد المحقّ لمن كان جزءاً من أجهزة النظام السابق؛ فعدم السماح لمن شارك في التبرير الإعلاميّ للجريمة بأن يتصدر المشهد مجدداً هو شرط أساسي لضمان أن يخدم الإعلام المصلحة العامة والذاكرة الأخلاقية للوطن كإعلام عامّ نزيه. فإذا كانت السياسة هي جوهر الحياة اليومية، فإنّ الحفاظ على الذاكرة الأخلاقية الحية وتطهير الإعلام هو وحده الشرط الذي لا يمكن التنازل عنه لضمان أنّ المستقبل لن يعيد إنتاج جلاديه أو يتسامح معهم. وعليه، يبقى الموقف الأخلاقيّ السليم هو أول وأهمّ خطوة نحو تحقيق الحرية والعدالة.

شارك

مقالات ذات صلة