مدونات
في الدوحة، لا تُنظَّم البطولات كأحداثٍ عابرة، بل كمنصّاتٍ للرسائل الكبرى. ومع انطلاق كأس العرب، عادت الكرة العربية لتتنفّس شغفها من جديد، وسط تنظيم محكم يعكس خبرة قطر في إدارة التظاهرات الرياضية الكبرى، ويؤكد مرّة أخرى أنّ الرياضة هنا ليست مجرّد منافسة، بل صناعة متكاملة التفاصيل.
منذ اليوم الأول، بدا المشهد واضحًا: ملاعب مهيّأة بأعلى المعايير، جماهير عربية جاءت من كلّ الاتجاهات، وإدارة تنظيمية تنساب بسلاسة، دون ضجيج أو ارتباك. هدوء في الكواليس، وحيوية في المدرجات، وهو توازن لا تصنعه الصدفة، بل تصنعه مؤسسات تعرف جيدًا كيف تُدير الضغط وكيف تمنح البطولة روحها الحقيقية.
في هذا المناخ، لم تكن كأس العرب مجرّد مجموعة مباريات، بل مساحة لاستعادة الثقة بالكرة العربية، ومرآة تعكس تطوّر البنى الرياضية والتنظيمية في المنطقة.
الجزائر والبحرين… خماسية تُعيد ترتيب المشهد.
وسط هذا الزخم، جاءت مواجهة الجزائر والبحرين لتكون واحدة من أكثر مباريات الدور إثارة ودلالة. خمسة أهداف جزائرية مقابل هدف واحد لم تكن مجرّد نتيجة عريضة، بل عنوانًا لتحوّل ذهني وفني عميق في أداء “محاربي الصحراء”.
المنتخب الجزائري دخل اللقاء بثقة البطل، لا يبحث عن تبرير ماضيه، بل عن تأكيد حاضره. لعب بجرأة، ضغط، صنع، وسجّل، وكأنّه يعلن أنّ اللقب السابق لم يكن محطة عابرة، بل بداية لمسار يريد البناء عليه لا الاكتفاء به.
أمّا المنتخب البحريني، الذي حاول في لحظات مجاراة الإيقاع، فقد وجد نفسه أمام منتخب يستعيد روحه التنافسية بقوة، ويقدّم واحدة من أكثر مبارياته إقناعًا في البطولة.
من دائرة الشك إلى فضاء اليقين.
قبل انطلاق كأس العرب، رافق منتخب الجزائر قدرٌ كبير من التشكيك. أسئلة كثيرة طُرحت حول مدى جاهزيته، وقدرته على حمل ضغط الدفاع عن اللقب، وهل ما زال يمتلك نفس الزخم الذهني والتنافسي.
لكن الخماسية أمام البحرين لم تترك مجالًا للتأويل. الجزائر لم تُقنع بالمستوى فقط، بل أقنعت بالثقة، بالاستقرار، وبالعقلية التي تميّز المنتخبات الكبيرة: لا ردّ على الانتقاد بالكلام، بل بالفعل داخل الملعب.
لقد أعادت هذه المباراة تشكيل صورة المنتخب في الوعي الجماهيري والإعلامي، من بطل يُنتظَر سقوطه، إلى منافسٍ شرس يُنتظَر تتويجه من جديد.
قطر… حين يصبح التنظيم جزءًا من هوية البطولة.
ما يمنح كأس العرب هذه القيمة الاستثنائية ليس التنافس وحده، بل السياق الذي تُقام فيه. في قطر، تمتزج كرة القدم بالثقافة، بالجمهور، وبإحساس عميق بأنّ الرياضة وسيلة للتقارب لا للانقسام.
المدرجات تتحوّل إلى لوحةٍ عربية واحدة، اللهجات تختلط، والأعلام ترتفع دون حدودٍ جغرافية. هنا، لا تشعر بأنّك تشاهد بطولة إقليمية، بل مشهدًا حضاريًا يُعيد تقديم العالم العربي بصورته التي يستحقها: طموحة، منظمة، نابضة بالحياة.
بطولة تتجاوز المستطيل الأخضر.
بين تنظيم قطري يُضرب به المثل، وأداء جزائري يُعيد الهيبة، تمضي كأس العرب بخطى واثقة لتكون واحدة من أبرز نسخها تاريخيًّا. بطولة تُعيد الثقة بالكرة العربية، وتمنح الجماهير لحظات نادرة من الفرح الصافي.
أما “محاربو الصحراء”، فقد اختاروا أن يبعثوا رسالتهم مبكرًا: من يشكّ في الأبطال… عليه أن ينتظر الردّ من داخل الشباك.
جيهان قوسم

