سياسة

من الميدان إلى الدولة.. عامٌ على التحرير

ديسمبر 8, 2025

من الميدان إلى الدولة.. عامٌ على التحرير

عامٌ على معركة ردع العدوان وتحرير سوريا من نظام الأسد البائد المستبدّ، اثنا عشر شهراً مضت على ذلك اليوم الذي انطفأت فيه رموز القمع في سوريا، وبدأت معه مرحلة جديدة من التاريخ السوري، تغيّرت الخريطة السياسية والإقليمية، وتبدّلت موازين القوى في الداخل والخارج، لكن الأسئلة الكبرى لم تُغلق بعد.

فالنصر والتحرير لم يكونا للشعب السوري فحسب، بل امتد أثرهما إلى وجدان الشعوب المقهورة التي رأت في سقوط الاستبداد السوري انتصارًا لفكرة الحرية ذاتها، ومع ذلك، فإنّ معارك الأمم لا تُقاس بما تسقطه من أنظمة، بل بما تبنيه بعدها من مؤسساتٍ تُحصّن الحرية وتصون الكرامة.

أنهت معركة ردع العدوان زمن الخوف، لكنّها فتحت زمن المسؤولية، فمن الميدان إلى الدولة، بدأ الامتحان الحقيقي: هل نستطيع أن نترجم نصر السلاح إلى نصرٍ في الحكم، والإدارة، والعدالة؟

التحوّل من السلاح إلى السياسة.

أحد عشر يوماً كفيلة بإسقاط نظام الأسد البائد ومنحِ الشعب السوري حقّ المواطنة الذي حُرم منه خلال سنوات الثورة بعدما هُجر، ذلك الحقّ الذي انتزعه الأسد الأب والابن خلال حكمهما من كلّ السوريين الحالمين بدولة القانون والحرية والعدالة.

 تضحياتُ ملايين السوريين اختُصرت في معركةٍ كان مفادها النصر والتحرير لا غير، لكن لحظة النصر لم تكن نهاية المسار، بل بدايته الفعلية، فحين صمتت البنادق في دمشق وحلب والبادية، واجهت الثورة سؤالها الأصعب: كيف تُدار دولة تحررت بالسلاح وتُبنى بالسياسة؟

سقط النظام العسكري، لكن بقيت الحاجة إلى نظامٍ مدني يملأ الفراغ، يُعيد تعريف السلطة لا احتكارها.

في الأيام التي تلت التحرير، تشكّلت المجالس المحلية من قلب المدن والبلدات، وانطلقت مبادرات لتوحيد الحكومة المؤقتة ضمن إدارة مركزية واحدة، ظهرت لجان عدالة انتقالية مؤقتة لتوثيق الانتهاكات والتحضير للمحاسبة، في محاولةٍ لتجنب فوضى الانتقام التي رافقت سقوط الأسد البائد وحلفائه.

غير أنّ أصعب ما واجه الثوار لم يكن جمع البنادق بل توحيد الرؤى، من خنادق القتال إلى مكاتب الإدارة، انتقل السوريون إلى امتحانٍ جديد، امتحان يحدد إن كانوا قادرين على بناء نموذج حكمٍ يختلف عمّا ثاروا عليه.

لأنّ الخطر الحقيقي هو ما بعد الانتصار والتضحيات والذي يكمن في فوضى الداخل لا أعداء الخارج، فهنا يتصارع الطموح الشخصي مع المصلحة العامة، وهنا معركةٌ أشد تعقيداً من معارك السلاح، فمشروع تحويل النصر العسكري إلى مشروع دولة لا غنيمة ثورية كان امتحاناً حقيقياً للثورة السورية، من خلال بناء الشرعيّة عبر المؤسسات لا فوهة البندقية.

 

العدالة وإعادة البناء.

مع انقضاء عامٍ على التحرير، فتحت سوريا الجديدة ملفاتٍ ظلت مغلقة لعقود: المعتقلون، المفقودون، التعويضات، والعدالة الانتقالية. لم يعد السؤال: من حكم؟ بل كيف نُقيم العدالة بعد حكمٍ قتل العدالة نفسها؟.

فمنذ سقوط نظام الأسد البائد، بدأ السوريون استعادة ذاكرتهم المسلوبة، واسترجاع ما دفنته أجهزة المخابرات في سراديبها وسجونها، عشرات اللجان المستقلة انطلقت لتوثيق الجرائم، وللبحث عن مصير المفقودين، فيما تولّت بعض المنظمات الحقوقية دعم جهود المحاكم الخاصة بمحاسبة رموز النظام السابق على جرائمهم ضد الشعب.

كان شعار الحكومة الانتقالية التي وُلدت من رحم الثورة: “حقّ المواطنة، العدالة، الوطن للجميع”، ومعه وُضعت أسس الدولة الجديدة على قاعدة المساواة أمام القانون، الرشوة التي كانت لغة الدولة، اختفت إلى حدّ كبير، ومعها بدأ يذوب الفساد المؤسساتي الذي نهش جسد البلاد لعقود.

ورغم شحّ الموارد، بدأت عجلة الإعمار تدور ببطءٍ ولكن بثقة، وفي كلّ المحافظات تقريبًا، أُطلقت حملات تبرّع شعبية لإعادة بناء البنية التحتية التي دمّرها الأسد وحلفاؤه، وأعيد تأهيل المدارس والمستشفيات تدريجيًّا، تحسّنت ساعات الوصل الكهربائي بشكلٍ ملحوظ في عموم سوريا، وتشكّلت إدارات محلية منتخبة لتضبط الأمن وتوحّد الهوية الوطنية.

الأهم من كلّ ذلك، أنّ الكلمة عادت حرّة، الإعلام السوري، الحكومي والمستقل، يعيش اليوم للمرة الأولى منذ عقود زمن الحرية الكاملة في التغطية والنقد والمساءلة، من رحم الميدان ودماء الثوار، وُلدت دولة جديدة تحاول أن تعيد العدالة إلى معناها الحقيقي: أن لا يكون هناك سجينٌ من أجل رأي، ولا مواطنٌ بلا حق.

التوازنات الإقليمية والدور الدولي.

في خضمّ الأحداث الدولية الساخنة، من حرب غزّة إلى أوكرانيا، وعمليات السلام التي تحاول واشنطن من خلالها إعادة رسم خرائط النفوذ، لم تكن سوريا غائبة عن موازين القوى الجديدة.

 فبعد عامٍ على التحرير، تبدو البلاد كأنّها تدخل طوراً جديداً من “السياسة الواقعية”، حيث لم تعد المعركة عسكرية بقدر ما هي معركة استقلال القرار وإعادة بناء الدولة دون الوقوع في فخّ الارتهان للخارج، منذ سقوط نظام الأسد البائد، تحرّكت موازين المنطقة بسرعة، فمشاريع النفوذ الإيراني في الجنوب السوري اختفت مع تحرير سوريا لأنّ الثوار أفشلوا مشاريعها، وتوقّف إنتاج وتهريب الكبتاغون الذي كان أحد أبرز رموز دولة الفساد السابقة.

 بالتوازي، ظهرت قطر كأبرز الفاعلين في دعم سوريا الجديدة، استمراراً لموقفها منذ اللحظة الأولى للثورة، دعمت الدوحة عملية الانتقال السياسي، وأسهمت في بناء مؤسسات الحكم المحلي وتمويل مشاريع إعادة الإعمار المبكر، ضمن رؤية تراعي استقلال القرار السوري لا وصايته.

أمّا السعودية، فدخلت المشهد من بوابة “الاستقرار الإقليمي”، مقدّمة الدعم الإنساني والاقتصادي المشروط بعدم الانزلاق إلى تحالفات أيديولوجية.. وتركيا، التي دفعت أثماناً باهظة في سنوات الحرب، وجدت في سوريا المحرّرة شريكاً حيوياً يحقّق لها هدفين: ضبط حدودها الجنوبية أمنياً، وتوسيع شراكتها الاقتصادية في منطقةٍ واعدة بالإعمار، أوروبا من جهتها، بدت أكثر حذرًا، فهي تشترط تقدّماً واضحاً في ملفات العدالة وحقوق الإنسان قبل ضخّ الأموال، لكنّها تبدي استعداداً لفتح قنوات تمويل تنموية تدريجية.

غير أنّ الدعم الخارجي، مهما كانت نواياه، يظلّ سيفاً ذا حدّين، فالإعمار ضرورة لا يمكن تحقيقها دون شراكات دولية، لكن السيادة لا تُبنى على المنح بل على المؤسسات، هنا يبرز التحدي الأكبر أمام السوريين: كيف يمكن الموازنة بين الحاجة إلى التمويل وبين الحفاظ على القرار الوطني المستقل؟

والاستقلال السياسي لا يعني العزلة، بل بناء شبكة تحالفات ذكية تحفظ مصلحة الوطن أولاً، فالتاريخ علّم السوريين أنّ سقوط الاستبداد لا يكتمل إلا حين تنهض دولة قادرة على إنتاج قرارها من داخلها، لا من سفارات الآخرين.

ويبقى السؤال: هل تتعلّم سوريا الجديدة من تجارب الثورات العربية الأخرى التي اصطدمت بجدار المصالح الإقليمية أم ستنجح في تحويل الدعم الخارجي إلى فرصة لبناء دولة لا تُباع ولا تُشترى؟

إنّ النصر في ردع العدوان ما كان حدثاً سورياً عابراً، بل نقطة تحوّل مهمة في ميزان القوى الإقليمية ودول الجوار، فالنظام البائد الذي أتعب دول الجوار لسنوات من التهريب والتخريب والفوضى انهار أخيراً بعزيمة الثوار والصبر وتحت ضربات السوريين أنفسهم، لتتوقّفت خطوط تهريب الكبتاغون التي أنهكت الأردن ولبنان والعراق، وأُغلقت المعابر غير الشرعية التي حوّلها الأسد وإيران إلى أدوات ابتزاز سياسي وأمني، ومع انكفاء هذا النظام، تراجعت التوترات الحدودية، وبدأت مرحلة جديدة من التعاون الإقليمي قائمة على الثقة لا الخوف.

أمّا إسرائيل، التي طالما استخدمت “التهديد السوري” ذريعة لضربات متكرّرة، فقد وجدت نفسها أمام مشهد مختلف؛ فزوال النظام البائد أنهى الذريعة، وفتح باب التوازن الجديد الذي يُعيد تعريف الأمن في المنطقة.

 وبانحسار النفوذ الإيراني، تحوّلت الجغرافيا السورية من ساحة صراع بالوكالة إلى ساحة تفاهمٍ محتملٍ يفرضه واقع ما بعد الحرب.

ومع ذلك، تبقى المعركة مستمرة بمعناها الأوسع؛ معركة تثبيت العدالة، بناء الدولة، وردع أي عدوانٍ جديد على حرية السوريين. فالتحرير الحقيقي لا يكتمل إلا بصون المكتسبات، وبقاء روح الثورة حيّة بالتكاتف والوحدة.
إنّ سوريا التي وُلدت من تحت الركام، لن تسمح بعودة الاستبداد، ولن تتنازل عن حقّها في أن تكون بوابة السلام العادل في المشرق كله. 

شارك

مقالات ذات صلة