سياسة

معركة التحرير.. وقائع شخصية للاجئ سوري

ديسمبر 6, 2025

معركة التحرير.. وقائع شخصية للاجئ سوري

عندما أخبرتني زوجتي بتقدّمٍ كبير لقوات المعارضة في ريفي حلب وإدلب لم أحفل كثيراً بذلك، بعكسها هي كانت ما تزال تتابع الأحداث في سوريا وتحتفظ بخيطٍ دقيق مع الداخل، على عكسي أنا تقطعت راوبطي مع البلد سريعاً وانكمشت على نفسي سريعاً، تذكّرت سقوط حلب عام 2016 والألم الذي أصابنا عند سقوطها بيد النظام والمليشيات الإيرانية، حلب لنا، حلب لهم، ثمّ تمخض الأمل العريض عن خيبة، غادرت تركيا إلى أوروبا جراء ذلك السقوط، سقوط كان يراد به إسقاط الثورة في نفوس السوريين، إسقاط للمشروع برمته، لم أحتمل ذلك الأثر في نفسي لسنوات لاحقة.

رددت على زوجتي آنذاك: هل ستعود معاناة أهل حلب مجدداً، جراء تجاذبات إقليمية؟! تجاربنا خلال عقد ونيف، كانت مليئة بتدخلات إقليمية واضحة وتجاذبات أثقلت على الإنسان السوري مصابه، كان الحدث الراهن قبل معركة ردع العدوان حرب غزة مع ما شكلته من جرحٍ غائر في ضمير كلّ إنسان سوري سواء كان في الخارج أو في الداخل، كنّا نحن اللاجئين نرزح تحت ثقل هذا الحدث الكبير، وكنت أسقط تجربة طوفان الأقصى على ردع العدوان في اللاوعي من تفكيري، معركة عبثية أخرى ربما، لم أكن متفائلاً للدرجة التي قد أتخيل فيها أنّ ردع العدوان قد تكون قيامة سورية من الموت.

 قيامنا جميعاً، ناس وبلد، لاجئون ومهجّرون ويتامى وأرامل وأطفال مخيمات، كهول وعجائز، سكان المحرر وسكان مناطق النظام، اتفق الجميع على انتظار هذه الفرحة، اختلفوا على الدوافع والأسباب ولكنّهم جميعهم فرحوا، تنفّس السوريون الأمل في ذلك الصباح، كنت مريضاً تلك الليلة، زوجتي أيقظتني قرابة منتصف الليل، لتقول لي إنّ قوات المعارضة تجاوزت حمص وإنّ هناك اشتباكات وانسحاب النظام في محيط دمشق، وعلى سنا الحمى جلست في فراشي أنظر إلى التلفاز وللهاتف بالتناوب، كانت ليلة تأججت فيها المشاعر، وانتقلنا فيها من حالٍ إلى حال، عدم تصديق وعدم يقين، مع الفجر تداعى لذهني صورتي عندما كنت طفلاً، الشعور الذي كان يأتيني في سوريا في يوم العيد، عندما أرتدي ثياب العيد وأنتظر المصلين والحلوى، هل هذا حقًّا يوم العيد؟ هل أنا موجود الآن وهنا؟

في اليوم التاسع من الشهر بعد يومٍ من التحرير، بعد ليلة انتظار قلت لزميلي التونسي في العمل، اليوم أحسّ بأنّني سوري وأنتمي إلى وطن أرض وشعب وناس وثورة وشعور عام، الانتماء هو ما كنت أفتقده لسنواتٍ طويلة، أصبحت كلمة لاجئ ثقيلة الوطء على سمعي، لاجئ تعني أنّك بدون وطن بدون انتماء، كلّ شيءٍ مؤجل، كلّ شيء يخزن في براد الغربة، لا أحلام ولا أمل، تواسينا بعض كلمات التشجيع هنا وهناك، أتذكر كلام جاري الفرنسي عندما كان يقول لي: ظروفك صعبة، ليس سهلاً أن تعيش في الغربة واللجوء، أتذكر زبونة تسألني عن مهنتي الأصلية: أسرد لها أحداثاً لا تهمها، أشياء غير مكتملة، دراسة جامعية غير مكتملة، عمل في الكتابة غير مكتمل، ثورة غير مكتملة، لا شيء مكتمل ومستقر في حياتي، هي تجميعة لخيبات، كلّ ذلك هبط مرة واحد بتاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر، سقط مرّة واحدة باكتمال هذه الثورة ووصولها إلى هدفها، وهو إسقاط النظام وما يأتي بعدها يستدعي الأخذ والردّ ولكنّه عادي وطبيعي ويمكن التعامل معه، كلّ ذلك سيكون طبيعياً، فقط لتنكسر غربتنا عن البلد ولينكسر ذلك القيد الذي فصلني عن هذا البلد وأهله وليكن بعده ما يكون، قبل سنةٍ من التحرير كنت قد وصلت إلى طريق مسدود في الغربة، شبح أو بقايا سوري يعيش في الغربة، لا يشبه الإنسان السوري الذي كان قبل كذلك، لا شيء يشبهني في الأمس لا المكان ولا الزمان.

تتوالى الأخبار آنذاك على التلفاز طوال يومين: 

  • حماة تسقط بيد الثوار، الأهالي يخرجون للشوارع فرحين.
  • مقاومة بسيطة بالقرب من حمص، ونزوح من المدينة.
  • قمة في بغداد لعددٍ من دول الإقليم يمثلها آخر وزير خارجية للنظام السوري، لا تفضي إلى شيء!
  • ترقب وخوف سوريان مع كلام عن تدخل عراقي لصالح النظام.
  • رسالة لأحمد الشرع قائد ردع العدوان، يطمئن فيها العراق.
  • سقوط سريع لحمص!
  • طائرات مدنية وخاصة تخرج بكثافة وبشكل مثير للريبة من سوريا برحلات متواصلة.
  • فيديوهات لعناصر من النظام يلقون ببزاتهم العسكرية في الشارع أثناء هروبهم.

الأحداث تتوالى وتتصاعد، هناك شيء واحد ينتظره السوريون، بيان شجاع ينعي نظام الأسد بشكل مبرم ونهائي، تأخر البيان عدة ساعات عن رحيل الأسد الموثّق نحو قاعدة حميميم العسكرية الروسية، لا أحد يصدق أنّ هذا النظام يسقط بهذه الطريقة المدوية.

تحت نار الحمى مجدداً، يتراءى لي سامح مستو الثائر الحلبي الذي توفي في غازي عنتاب التركية، في حادث أثناء العمل، كم كان من الممكن أن يكون سعيداً لو كان معنا اليوم ليحيى هذا اليوم، أتذكر صديقي الأسمر المحامي والثائر أبو يم، والذي توفي في غازي عنتاب جراء سكتة قلبية وهو في ريعان الأربعين من العمر، رحل باكراً جداً، أتذكر بلال وقاسم ومحمد وآخرون كثر، ممّن مهدوا لهذا اليوم.

الطريق إلى صيدنايا لا يشبه أيّ طريق، طريق الحج إلى الحرية، تدفع سوريا اليوم كفارة التساهل مع نظام الأسد، يتقاطر الناس في صبيحة ذلك اليوم نحو السجن الأسطورة الأيقونة لكلّ ما يمثل نظام الأسد، ليتني معهم أسير ذلك الطريق، عساي أن أتحرر من تعبي وألمي وغربتي.

في حوالي السادسة صباحاً، يعلن المذيع من خلف التلفاز نهاية نظام الأسد، أتذكر وجوهاً قفزت إلى الوجود من العدم، كأنّها لم تكن موجودة يوماً، رائحة أرض بعيدة، تلك الشوارع المتربة أعرفها جيداً، ولكنّها تهرب من ذاكرتي دائماً، اليوم تعود مع آلاف السوريين في الشوارع.

في الثلاجة المظلمة المسمّاة الغربة أو اللجوء، كانت هناك كوة صغيرة أرى منها سوريا بشكل عارضٍ وسريع، كوة كانت تضيق أحياناً حتى لا أرى منها شيئاً بتاتاً، أحياناً تغلق من ذاتها وأحياناً أفضل أنا إغلاقها، في هذه الثلاجة نسيت نفسي وذاتي التي وعيت بها بعد التحرير، انهيار نظام الأسد أعطى ذلك الميت ترياق الحياة ليخرج من جليده ومن برده وعزلته، قد يُكتب عن الوطن وسوريا الكثير ولكن هناك مشاعر يشعر بها اللاجئ اتجاه وطنه، وخصوصاً في حالة شديدة التعقيد كالحالة السورية، قد لا تستطيع الكلمات إنصافها ولا تفصيلها، ذكريات وآلام وصور تستهلك اللاجئ من الداخل، لتصنع له عالماً داخلياً يعيش فيه في بلد اللجوء، كفقاعة كبيرة تحيط بي عشت لسنوات طويلة، في ظلّ تسميات اللاجئ والمواطن العالمي، أصبّر نفسي بأنّ العلاقات البشرية تكون كافية حتى مع شعوب لا تربطنا بهم روابط ثقافية واجتماعية، كغصنٍ قُصَّ من شجرته الأم، يزداد جفافاً يوماً بعد يوم، يزداد مواتاً ويزداد بُعداً واحتضاراً، كنت أنا ككلّ تلك التوصيفات، مع تلك الليلة الاستثنائية، أشعر بالحياة مجدداً.

السوريون يحتفلون في ساحة الباستيل وسط باريس، في اليوم الثاني، كنّا عندما نذهب إلى تلك المظاهرات سابقاً نشعر بالألم الشديد، وبضغطٍ نفسي هائل واستحضار للمعاناة والبؤس السوريَّين، الآن نذهب لنحتفل لأول مرّة، السوريون يعيشون فرحةً لا تذكّرني إلا بمشاعر 2011؛ فرحةٌ غامرة، ووجوهّ مرتاحة، وثغورّ باسمة.

شارك

مقالات ذات صلة