مدونات
تظهر معركة “ردع العدوان 2024” كإحدى اللحظات النادرة التي تتشابك فيها الجغرافيا مع الوعي، والسلاح مع الصورة، والميدان مع الرواية. فالحرب السورية، الممتدة منذ أكثر من عقد، أثبتت أنّ المشهد العسكري لم يعد قابلاً للفصل عن منظومةٍ كاملة من التأثيرات النفسية والاتصالية والإقليمية والدولية، وأنّ أيّ معركة، مهما كانت محدودة جغرافياً، تتحوّل إلى موجةٍ عابرة للحدود والقارات، لها أثرها في غرف العمليات وفي المزاج العام وفي صالونات السياسة الخارجية.
هذا التداخل المعقّد يجعل قراءة المعركة مجرّد مدخل لقراءة لحظةٍ سياسية ونفسية أشمل. فالمقاتلون لم يتحركوا وحدهم، بل تحركت معهم منظومات إعلامية، وشبكات رقمية، وأنظمة استخبارات، ومراكز أبحاث تتلقف كلّ إشارةٍ لتعيد ضخها في حسابات تقدير الموقف.
لا سيّما أنّ الحالة السورية تميّزت بتفرّد واضح مقارنة بثورات الربيع العربي وسائر النزاعات التي اندلعت منذ نهاية الحرب الباردة. حيث إنّ الصراع لم يكن شأناً داخلياً فحسب، بل تحوّل إلى ساحةٍ تتقاطع فيها مصالح إقليمية ودولية متشابكة، وتعدد الفاعلين المحليين والدوليين، ما منحها وزناً يتجاوز حدوده الجغرافية.
أظهرت السنوات الأخيرة أنّ السيطرة على معنى المعركة لا تقل أهمية عن السيطرة على مواقعها. الدراسات الحديثة في علم الاتصال (مثل أبحاث RAND Corporation وInternational Crisis Group) تشير إلى أنّ الحروب المعاصرة تتشكّل بنسبة تتجاوز 40% عبر السرديات المصاحبة لها، وأنّ الجمهور يتجاوب عاطفياً مع الصور أكثر من البيانات العسكرية المجردة.
منذ اللحظات الأولى لمعركة “ردع العدوان”، بدا أنّ الفصائل في شمال سوريا تستعيد تراثاً طويلاً من استخدام الصورة كسلاح. لم يعد المقاتل مجرّد عنصرٍ في معركة، بل رمزاً بصرياً متكرراً، يظهر تحت الإضاءة الصحيحة، في اللحظة التي يريدها فريق الإعلام، وفي الزاوية التي تعطي الانطباع المطلوب عن القوة أو الثقة أو التضحية. كما أنّ الأخبار المتداولة وسرعة ورودها وتكرارها، سهل من استخدامها كعنصرٍ أساسي في المعركة.
حيث اعتمدت الفصائل منذ الساعات الأولى للمعركة على بثّ مقاطع قصيرة مصحوبة بموسيقى دينية أو وطنية، إلى جانب تحديثات سريعة عن “التقدمات” الميدانية. هذا الأسلوب أدى دوراً حاسماً في تعزيز الشعور الجمعي وخلق حالة من التماهي النفسي بين الجمهور والفعل العسكري، ما منح انطباعاً بتفوّق معنوي حتى في غياب مكاسب حقيقية على الأرض.
انعكس ذلك بوضوح على الطرف المقابل، إذ تراجعت معنويات المقاتلين وامتدّ الأثر إلى عائلاتهم التي تتواصل معهم بشكلٍ دائم، الأمر الذي أسهم في حالة الانهيار النفسي التي بدأت تتكشّف مع اقتراب المعركة من مشارف حماة.
بالمقابل أعاد إعلام النظام وحسابات مريديه تدوير الأسطوانة ذاتها بنفي الخسائر، ورفع لافتة “المؤامرة” التي استهلكوها طوال عقد كامل حتى أصبحت مادة تندر بين مؤيديهم قبل غيرهم. وتشير الدراسات المعنية ببروباغندا الأنظمة السلطوية إلى أنّ تكرار هذا النمط يفقده فعاليته، ويدفع الجمهور إلى التشكيك في الرواية الرسمية والبحث عن المعلومات من الطرف المقابل باعتبارها أكثر التصاقاً بالواقع.
هذا الانهيار في مصداقية خطاب نظام الأسد ضاعف من تأثير إعلام الفصائل وغرفة عمليات “ردع العدوان” في ميدان الحرب النفسية، وجعل رسائلها أكثر نفاذاً وانتشاراً.
وما ميّز المشهد الإعلامي أيضاً كان تعاطي الإعلام الروسي مع الحدث بنبرةٍ رسمية متحفظة وباردة، حيث عُرضت تغطية المعركة كخبر ثانوي دون إيلائها مساحة بارزة أو انخراط انفعالي أو حربي مكثف، وهو أسلوب لا يتوافق مع سياسة الإعلام الروسي العامة، بما في ذلك منصات مثل “روسيا اليوم”. هذا الأسلوب يعكس بوضوح رغبة موسكو في إبقاء المعركة ضمن إطار محدود، بعيداً عن توسيع دائرة الصراع أو إشعال توترات إقليمية ودولية إضافية.
هذا التعاطي الإعلامي لا يقتصر على مجرد أسلوب تغطية، بل عكس استراتيجية عسكرية وسياسية متعمدة، تشير إلى تحفظ روسي في دعم نظام الأسد بشكلٍ مباشر خلال عملية “ردع العدوان”. فروسيا اختارت أن تبرز موقفاً حذراً يراعي مصالحها الإقليمية والدولية، متجنبةً أيّ تصعيد قد يعرّضها لمواجهة أوسع أو يعقّد موقعها كلاعبٍ رئيسي في الملف السوري.
كما لعبت الصور والكلمات دوراً نفسياً وجوهرياً في تشكيل المشهد المعنوي خلال معركة “ردع العدوان”، حيث تحوّلت إلى أدوات فعالة في صناعة الانتصار الرمزي قبل الميداني، وجعلت المعركة أكثر من مجرد اشتباكات على الأرض.
فمن التسميات التي ظهرت جلية كانت تسمية “العصائب الحمراء”، التي تمثل مجموعة عسكرية نخبوية ضمن “هيئة تحرير الشام” تُعرف بمهامها القتالية عالية الخطورة، مثل الهجوم والتوغل خلف خطوط العدو. تتميز بتدريبها المكثف وزيها الموحد، وعصائب حمراء يرتديها عناصرها. تمّ الإعلان عنها للمرة الأولى في آب/ أغسطس من عام 2018 ضمن إصدار مرئي بعنوان “لن نركع إلا لله”، واستمدت تسميتها من العصابة الحمراء التي كان يرتديها الصحابي أبي دجانة، المعروف بالشجاعة والإقدام.
مثلت مجموعة “العصائب الحمراء” خلال المعركة رمزاً بصرياً قوياً ومؤثراً، باعتبارها القوة التي بدأت المعركة ودمرت خط التحصين والدفاع الأول لنظام الأسد، وتمّ الاعتماد عليها إعلامياً وتوظيفها كأداةٍ نفسية لبث الخوف في صفوف عصابات الأسد في المعارك المتقدمة نحو العاصمة دمشق.
كذلك، “طيران الشاهين” لم يُستخدم فقط كقوةٍ جوية، بل شكّل رمزاً للإرادة والسيطرة الحاسمة، إذ لا تقي متاريس الدفاع والتحصينات عن استهداف من خلفها بوجوده. اُعتمد بث فيديوهات مصورة تُظهر دخول طيران الشاهين إلى غرفٍ ومتاريس وقتل من يتحصن بها، فغدت السماء كحقل ألغام طائر.
أما خطب دخول المدن، فقد لعبت دوراً محورياً في صياغة خطاب معنوي قوي، إذ لم تكن مجرّد كلماتٍ تقليدية، بل رسائل استنهاضية تحمل معاني وطنية ودينية، تؤكد استعادة الكرامة والسيادة، وتحفّز القتال في اللحظة الفارقة. كانت هذه الخطب تتكرر عبر مكبرات الصوت أو تُبث عبر المنصات الرقمية، لتخلق حالة من الوحدة النفسية والتلاحم بين المقاتلين والمدنيين، وتحول دخول كلّ مدينة إلى لحظةٍ رمزية تعبّر عن انتصار الإرادة على الخوف والهزيمة.
بمجموعها، شكّلت هذه الرموز والصور والكلمات منظومة نفسية متكاملة تعمل على تعزيز التفوق المعنوي وتثبيت الانتماء، وتجعل المعركة في الوعي الجماهيري أكثر حضورًا وتأثيرًا، بما يتجاوز مجرّد نتائج الخطوط الأمامية على الأرض.
تؤكد معركة “ردع العدوان 2024” أنّ الحروب المعاصرة ليست فقط معارك على الأرض، بل حلبات معركة نفسية وإعلامية تستهدف تشكيل وعي الجماهير وصنع الانتصارات الرمزية قبل الميدانية. من خلال استثمار الصور والرموز والسرديات، استطاعت الفصائل إعادة تعريف الصراع السوري بعمقٍ يتجاوز الخطوط الجغرافية، فيما حافظت القوى الدولية على مواقف حذرة تعكس تعقيدات المصالح الإقليمية والدولية. تبقى المعركة نموذجاً يعكس طبيعة الصراعات الحديثة التي تتشابك فيها السياسة والإعلام والتقنيات النفسية، وتؤكد أنّ السيطرة على الميدان تبدأ بالسيطرة على المعنى.




