أدب
تعبتُ من الحديث عن عالَم صدّام حسين والجرائم والقتل وقصص الحروب، فقد عرضتُ في ثلاث حلقات كتاب “فخ أخيل” للصحفي ستيف كول، ورأيتني أشعر بالحاجة إلى الحديث عن الآباء، وتذكّرت إنَّ اضطراب علاقة الكاتب إدوارد سعيد مع والده تُذكِّرني بمأساة الآباء والأمهات مع الأبناء، كما عبّر عن ذلك سعيد في مذكراته “خارج المكان”.
من خارج المكان إلى النوافذ المفتوحة.
في مذكّرات شريف حتاتة “النوافذ المفتوحة” يذكر اضطراب علاقته مع والده، وحديثًا مؤثرًا عن والدته، بعد عودة شريف من فرنسا بعشرة أشهُر، فقد في تلك الفترة هاربًا من السلطات بسبب حكم بالسجن نتيجة أفكاره السياسية اليسارية ومعاداة الدولة لليسار في تلك الفترة في الخمسينيات.
كتب شريف حتاتة يقول: “كان هذا اللقاء بعد سجن في مصر وسجن في فرنسا، وعُدت مهربًا عمليًّا بجواز سفر مزوَّر إلى مصر، وذهبت للقاء والدتي في المنزل، أول لقاء مع الوالدة، لأنّه في الواقع حين أصف هذا اللقاء أشعر بـ… نوع من البرودة، أيّ إنّه كان يمكن أن يكون حارًّا أكثر”. ثمّ علَّق قائلًا: “عندما فكَّرتُ في هذا كانت قد ماتت، فما أكثر الأشياء التي فكرت فيها بعد أن فاتت السنين!…”، حتى إنّه ندم أنّه لم يأكل ما عرضته عليه بعد ذلك، ورأى وجوب الحفاوة بها، لكنّها كانت رحلت.
ترى نفس الفكرة في سيرة د. جلال أمين حينما كتب بحرقة: “ما زلت أشعر ببعض الألم ووخز الضمير حتى الآن كلما تذكرت منظر أبى وهو جالس في الصالة وحده ليلًا، في ضوءٍ خافت، دون أن يبدو مشغولًا بشيءٍ على الإطلاق، لا قراءة ولا كتابة ولا استماع إلى راديو، وقد رجعت أنا لتوّي من مشاهدة فيلم سينمائي مع بعض الأصدقاء. أُحيِّي أبى فيردُّ التحية وأنا متجه بسرعة إلى باب حجرتي وفى نيَّتي أن أشرع فورًا في النوم، فيما يحاول هو استبقائي بأيِّ عُذر هروبًا مِن وحدته، وشوقًا إلى الحديث في أيّ موضوع. يسألني أين كنت فأُجيبه، وعمّن كان معي فأخبره، وعن اسم الفيلم فأذكره، كلّ هذا بإجاباتٍ مختصرة أشد الاختصار وهو يأمل في عكس هذا بالضبط. فإذا طلب منى أن أحكي له موضوع الفيلم شعرت بضيقٍ كأنّه يطلب منى القيام بعملٍ ثقيل، أو كأنّ وقتي ثمين جدًّا لا يسمح بأن أعطي أبي بضع دقائق!”.
الروائي ندم لأنّ والدته عرضت عليه الطعام ولم يأكل، وجلال ندم على تلك الدقائق التي لم يجلس فيها مع والده.
أبي عبد العزيز الهجين
وبما أنّ الشجى يبعث الشجى، فقد رأيت منذ أيام صورة لشهادة وفاة والدي، وانثالت الذكريات، وتهيَّبْتُ ما أنا مُقْدِم عليه بالحديث عنه، وجمْع الذكريات وتأمُّلها. أقلّ ما قد يصيبني هو الخوف من الحزن، لكن ذكراه الطيبة تنتصر على مخاوفي. كيف أبدأ الحديث عنه وقد جربت كتابة عشرات المقالات عن الشخصيات العامة؟
أبي هو النخلة السامقة أمام قامتي وأنا طفل، والقمر الذي لا أطاله، والقلب الحنون. والعمر القصير الذي قضيته معه كفيل بِحُبّه والشوق الدائم إليه، فقد رحل عن عالمي وأنا أخطو أولى عتبات الإدراك منتقلًا من الطفولة إلى السنِّ التي يسمّونها مراهقة. أحلى ذكرياتي معه السفر إلى الإسكندرية لرؤية البحر، وأقسى ذكرى ضربة بقبضة يده محذرًا إياي من ضرب أخي محمود. عشت معه عيشة الحفيد مع الجد، فقد تفتحت عيناي على الدنيا وهو رجل كبير عجوز، يرتدي الثوب الطويل، والشعر الأبيض يغزو رأسه، يصحبني إلى ماما فاطمة زوجته الأولى، وأقضي معها نهارًا أشبه بالجنة.
لن تجد خطًّا زمنيًّا في حكاياتي عن أبي، هي فيض ذكرى وأُنس ورغبة في شحذ الذاكرة لعلّ الليل يجود عليَّ بحلم أراه فيه، مثل أمنية الشاعر “لـم يكـن وصـلـك إلا حلـمًـا في الكرى أو خلسـة المختلـس”.
أفتقد أبي كثيرًا، أفتقد الزهو أمامه بأيّ إنجاز، وأن أشعر أمامه أنّني ابنه المميز، وأرى في عينيه فرحته بي، فرحة الإنسان الذي يُحِبّ لك الخير أبدًا ويريدك في أفضل حال.
حالة سماوية لأنّني كلما عشت في دنيانا علمت أنّ الإنسان السويّ الذي يحب الخير للناس نادر، أفتقد وجوده وأُحِبّ أن أتذكّره وأُحِبّ أن أحكي للناس عنه. أُوقّع باسم محمد عبد العزيز رغبةً في أن أكتب اسمه وأنطق حروفه. هو الرجل الطيب الحلواني صانع البقلاوة المتصالح مع الناس، لم أرِث عنه المهنة، ولعلّي أُحِبّ لف النصوص بقِطَع من الطرائف كما يُحِب هو وضع المكسرات في بقلاوته وسقيها بالعسل. كم أكَلَ الناس من حلوياته والبسبوسة!
في الليل، يأتي طيفه ليُحدّثني ويُباركني، وليضع على رأسي يده الحانية، بطيفٍ من الأحلام وبجلال مهيب، أرى التجاعيد في يده فأُقبِّل يده، وأقول له: “حدثت أشياء كثيرة وأودّ أن أحكي لك”، فيقفز قلبي من ضحكته. لطالما احتجت إليه عند مفترق الطرق، عند الإنجاز الكبير أو القلق أو الفخر.
هذا أنا، ابنك وفلذة كبدك، هبة الستينيات في عمرك ورزق الله. لي كلام مؤجل وحديث لك لم أحكِه لأحد، ورسائل في نفسي، وفضول وشوق لأسمع قصص ومغامرات حياتك التي فاتتني. هل يحنّ الإنسان إلى أبيه بعد أن فارق كلّ حضورٍ أبويّ في حياته، إلا طيفًا عابرًا يزوره بين الحين والآخر ليطمئن عليه؟
سليمان الراجحي ووالده.
أنتقل بك للحديث عن سليمان الراجحي الذي يحكي في مذكراته عن علاقته مع والده، يقول: “أحد المشاهد كان في الحرم المكي، حيث كان أبي قد اعتاد ضربي منذ صغري، وقد كانت تلك عادة الآباء حينها، على الرغم من أنّي لم أكُن أعانده أو أرفض له طلبًا، ولكن لعدم رغبتي في الدراسة أو لسببٍ آخر، وقد ظللت على ذلك سنوات طويلة حتى وأنا رجل كبير ولي عدد من الزوجات والأبناء ولله الحمد. أذكر في تلك المرة وقد كانت الأخيرة، وكان عمري قد تجاوز السابعة والأربعين، أنّه اتصل بي في الصباح يطلب مني بعض النقود ذات الفئات الصغيرة التي يودّ توزيعها على فقراء الحرم، وقد طلب مني إحضارها له قبل صلاة الظهر، فاتصلت بمدير فرعنا في مكة المكرمة للقيام بذلك، وقد تأخر في تسليمها لوالدي إلى ما قبل صلاة العصر، وحينما حضرت إليه وكان جالسًا في الحرم المكي عرفت من نظراته إليَّ أن ثمة أمرًا غير عاديّ، فأحسست بأنّه كان غاضبًا مني، فقبَّلت رأسه ويديه كما هي عادتي مع والدي، وظللت دقائق أدعو له وأنا جالس على أطراف أصابعي، فسألني عن سبب تأخير النقود فأوضحت له الأسباب، غير أنّه لم يقتنع بذلك. كنت أعرف أنّه في مثل هذه الحالات يلجأ إلى أسلوب الضرب، غير أنّي لم أكُن أظنّ أنّه سوف يقوم بذلك وسط الحرم، لكنّه فعلها، ضربني ضربة قوية على كتفي، وما هي إلا ثوانٍ حتى سقطتُ على ظهري ورجلاي متعلقتان في الهواء. كانت الأخيرة في حياته، لكنّي كلما ذكرتها أتدبر قول المولى سبحانه وتعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:٢٣]”.
يستكمل الراجحي قائلًا: “في رأيي أنّنا نظل عاجزين عن الوفاء بحقوق الوالدين، وأنّ هذا العجز يظلّ يلازمنا ما حيينا، وفي سبيل التخفف منه لا بدّ أن نجتهد أكثر وأكثر”.
والراجحي يذكُر عديدًا من القصص عن والده وبِرّه به كما نقلها الكاتب فهد الجريوي في كتابه الجميل “الظل والحرور“، المجموعة الثانية.
كتابة الكبار عن الطفولة أدب خالص.
أحببت أن تكون هذه القصة ختامًا بعد ذِكر ندم بعض الأدباء على فوات الفرصة على العلاقة الطيبة مع الأهل. وفي السيَر الذاتية مساحة كبيرة لتحليل العلاقة مع الآباء والأمهات وتفسير الموقف من الأسرة، وتستطيع الوقوف على عديدٍ من القصص المؤثرة في سيرة الطفولة لفهد المارك ودعاء أمه على إخوته ووفاتهم، والنظر إلى تأثير مرحلة الطفولة في وعي الكبار.
منذ أيام، تقابلت مع د. عزمي بشارة وذكّرته بعبارته الجميلة وهو ينظر في غلاف كتابي ويرى صور أنيس صايغ وأحمد الخطيب، وقفزَت أمامي تلك العبارة التي كتبها عند حديثه عن أنيس صايغ وكتابة الكبار عن الطفولة، فهو يذكر في مقالته عنه أنّه قال لأنيس جملة فرح بها، لكنّه قصد فعلًا أن يطرح موضوعًا ما زال يشغله وما زال يفكّر فيه، كمعضلة فكرية للنقد الأدبي: “لماذا كلما كتب الكبار عن طفولتهم يخرج من بين أيديهم أدب من دون أن يدروا؟”.
يقول بشارة: “يصحّ هذا طبعًا عندما تكون الكتابة حقيقية وبسيطة ووصفية، وبشرط ألا تندسّ فيها محاولة أو اثنتان لإثبات نظريات متأخرة يدافعون عنها إبان البلوغ باستخدام الطفولة. أنا أقرأ الآن أدبًا جميلًا. كان هذا انطباعي عند قراءة الفصول الأولى من مذكرات أمثال كمال الصليبي، وشفيق الحوت، وأنيس الصايغ، وأحمد الخطيب، وغيرهم. أنصحكم بمراجعة تلك الفصول الأولى عن طفولتهم، فهي ليست كسائر أجزاء الكتاب، إنّها أدب جميل، بكلّ تعريف للجمال في الأدب”. هذا خير ختام لحديث الطفولة والأدب.
