اقتصاد

حين أطاح الانهيار المالي بحكم الأسد

ديسمبر 4, 2025

حين أطاح الانهيار المالي بحكم الأسد

في الذكرى الأولى لمعركة ردع العدوان التي أطاحت بنظام الأسد وغيّرت مستقبل سوريا إلى الأبد لا تكفي خرائط القتال لفهم ما حدث حينها؛ فخلف الحصون التي كانت تتحطم والفرق العسكرية التي كانت تنهار، والمساحات والمدن والمحافظات التي كانت تتحرّر واحدة تلو الأخرى، كان هناك الكثير من الأسباب الاقتصادية خلف المعركة ساهمت في إسقاط النظام. 

فالنظام استُنزف حتى العظم، وفقد أدواته التقليدية لإدارة كلّ ما تبقى من اقتصاده المنهار، فالليرة تداعت وانهارت، والخزينة نضبت، والدعم الاجتماعي شبه اختفى من الحياة اليومية، والتضخم استشرى في جميع سلع وخدمات البلاد، والسياسات الاقتصادية لم يبق حتى من اسمها نصيب، وأحيط النظام بعزلة اقتصادية حتى أشبه بعملة معدنية صدئة موجودة في خزينة فارغة كبيرة، وعقوبات اقتصادية شملت كلّ القطاعات من الزراعة للصناعة ومن السياحة إلى البنية التحتية، وموارد مسروقة ومنهوبة، واقتصاد ظل موازٍ كبر حتى تجاوز الاقتصاد الحقيقي والتهم ما تبقّى من الثقة والمؤسسات. 

بالتالي لم يكن الانهيار العسكري حدثاً منفصلاً عن هذا المسار، بل نتيجة منطقية لسنوات من سوء الإدارة الاقتصادية والتآكل البنيوي والغرغرينا الاقتصادية التي استشرت في كلّ مفاصل اقتصاد النظام حتى أصبح اقتصاد النظام مثل الجسد الميت في غرفة العناية المشددة على أجهزة الإنعاش.

تهاوي مؤشرات الاقتصاد الكلي.

ما إن نعود إلى قبل المعركة حتى تتبدّى الصورة الأوضح، فاقتصاد النظام كان بلا عصب نقدي ولا رئة مالية. الليرة فقدت ثقلها كسعر، وسحبت معها القدرة الشرائية حتى وصلت رواتب جنود النظام والموظفين إلى قاعٍ لا يصلح لضبط الولاءات ولا لإدامة ماكينة الأمن والإمداد. 

والتضخم تحوّل من موجاتٍ عابرة إلى مناخ دائم، فأعاد تسعير كلّ شيء من الخبز إلى الطاقة مروراً بكلّ المنتجات، بينما تآكلت الإيرادات الحقيقية لتتحوّل إلى إيرادات حرب من ضرائب بالإجبار من التجار وترفيق عند حواجز الفرقة الرابعة، ومعدلات بطالة وفقر مرتفعة حلّقت حتى عانقت عنان السماء، وميزان تجاري غرق في أعماق الخسائر، واقتصاد مواز ابتلع السيولة وأعاد توزيعها خارج الخزينة. 

ومع انكماش القاعدة الإنتاجية وتآكل الاحتياطات النقدية كاملة، صار القرار الاقتصادي محصوراً بين سيئ وأسوأ، فحتى طباعة النقود أصبحت تُغذّي التضخم حتى انتسفت كلّ السياسات النقدية، وركود اقتصادي للقطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة لدرجة أنّ النظام البائد لم يستطع إعادة إحياء هذه القطاعات مهما بذل من جهود، ما أدى لإشعال سخط اجتماعي متواصل ضده. كما أصيبت الموازنة بعجزٍ دائم ومستمر لم تتمكن كلّ وصفات الاقتصاد من إعادة إحيائها. حتى انتقل النظام من إدارة الأزمة الاقتصادية إلى إدارة الندرة لاستمراره فحسب لا استمرار الدولة والقدرة المعيشية، ومن ضبط السوق إلى مطاردته، حتى صار الانهيار مقدّمة طبيعية لانهيار عسكري سلس.

العزلة والعقوبات التي جعلت الاقتصاد يحاول التنفس عبر منفسة ظله.

لم تكن العقوبات وعلى رأسها قيصر بنداً عابراً في نشرة الأخبار، بل كانت سياجاً مالياً ونقدياً شائكاً حوّل التعامل مع سوريا إلى مخاطرةٍ قانونية ومصرفية، وجفّف قنوات الائتمان والتوريد والتأمين. وأغلقت النوافذ أمام المصارف الحكومية وشركات الطيران والمرافئ والتجار والصناعيين، فتراجعت القدرة على استيراد المعدات والقطع والمواد الخام، وارتفعت كلفة كلّ شحنة تمر عبر شبكة ملتوية من الوسطاء والمناطق الرمادية. 

ومع تقلّص التحويلات الرسمية وتشدّد الامتثال المصرفي عالمياً، صار الدولار شحيحاً، والسوق السوداء هي المصرف المركزي الحقيقي الذي يحدّد السعر والعصب اليومي للتجارة. أمام هذا الخنق، تكيّف النظام البائد على طريقته عبر التوسّع في اقتصاد الظل، وعمل على إنشاء شبكات التهريب والعمولات، واستبدل الإيرادات النظامية بريوعٍ غير قانونية لا تدخل الخزينة ولا تموّل خدمات عامة، بل تعيد توزيع القوة داخل حلقات ضيّقة من المنتفعين ضمن النظام.

هكذا تحوّلت العقوبات من قيدٍ خارجي إلى محرّك داخلي للتشوّه الاقتصادي، كفل كلّ صفقةٍ تحتاج واجهة اقتصادية، وكلّ واجهة تحتاج لشبكة اقتصادية خلفها، فتزايدت كلف الامتثال والالتفاف، وتآكلت القدرة التنافسية للإنتاج المحلي، وغاب الاستثمار الحقيقي باستثناء استثمار رأس المال المقرب بهدف محاولة الالتفاف على العقوبات. وفي اللحظة التي بدأت فيها معركة ردع العدوان كان النظام يعتمد على ركائز جسور رخوة فقيرة أدت لإفقار الجنود الذين أيقنوا مؤخراً أنّ أرواحهم تذهب فقط لأجل نظام ميت.

ريعيّة الحرب واقتصاد الكبتاغون.

حين جفّت موارد المالية العامة وتراجعت القدرة على الجباية، اندفع النظام إلى اقتصادٍ بديل يمنح السيولة بسرعة لكنّه يقتات من جسد الدولة وسمعتها، عبر ريوع المعابر والتهريب، وإتاوات الحواجز، وشبكات الاتجار غير المشروع وفي قلبها تجارة الكبتاغون. 

هذه “الإيرادات الطارئة” لا تبني مستشفى ولا تبقي مدرسة مفتوحة؛ فقد كانت تموّل حلقة ضيّقة من الوسطاء وتشتري ولاءات ظرفية للسلاح، بينما تعطّل النظام الضريبي وفرغت الخزانة. بمرور الوقت، صار ميزان القوة داخل المنظومة الاقتصادية للنظام البائد يقاس بقدرة كلّ جناح على الوصول إلى خطّ إمداد يحقق عائداً أكبر من الاقتصاد الأسود، لا بقدرته على إدارة مرفق عام أو حماية قاعدة إنتاجية.

منطق الريع أنتج حتماً اقتصادين، اقتصاد رسمي ضعيف يعلن الأسعار والقوانين ولا يستفاد من تطبيق أيّ سياسة من سياساته، واقتصاد ظلّ يحدّد التكلفة الحقيقية ويحسم من يصل ومن يستبعد. ومع توسّع دوائر الكبتاغون، تبدل تسلسل الأولويات، فأصبحت حماية خطوط الإنتاج غير الشرعي أهم من استقرار الكهرباء ومن خطوط الإنتاج الصناعي، وتأمين رشاوي العبور أهم من استيراد قطع الغيار، وتأمين حصة الشبكات الاقتصادية أهم من تمويل الخبز والدواء. هذا الانحراف جعل الاقتصاد أشد هشاشة، لأنّ تدفقات الريع لم يعد على الاقتصاد باحتياطيات قابلة للاستخدام، بل تسرب إلى خزائن مغلقة هاجرت في طائرة الأسد الهارب.

والأخطر أنّ اقتصاد الريع ولد تناقض ولاءات داخل الأجهزة نفسها، فكلّ شبكة حمت مصدر دخلها، وإن تعارض مع القرار المركزي، فتآكلت سلسلة الأوامر وتفككت القدرة على التنسيق العملياتي حتى في الممنوعات. وعند لحظة الاختبار الحقيقة مع بدء ردع العدوان، ظهرت الحقيقة، منظومة مُثقلة بمراكز ربح متضاربة لا تستطيع خوض معركة طويلة، هكذا تحوّل مصدر التنفس المالي المؤقت إلى عبءٍ استراتيجي أطاح بتماسك المؤسسات وعجّل انهيارها.

نهاية “الشراء السياسي”.. حين عجزت الخزينة عن تمويل السكون والولاء.

لسنواتٍ طويلة، حافظ النظام على تماسكه عبر مزيج مألوف، دعم معيشي يسكّن الغضب، وزيادات رواتب شكلية تغطيها دعاية صاخبة، ودفعات نقدية وسماح بالفساد والرشاوى وانتفاعات توزَّعت على شبكات السلاح والإدارة المحلية لشراء الطاعة. كما أنّه كلما طرأت زيادات متقطعة على الأجور، فقد الأجر معناه أمام قفزات الأسعار، وصار يمنَح صباحاً ويُلتهم مساءً في طوابير الوقود والخبز والدواء. ومع تقلّص التحويلات الرسمية وارتفاع كلفة الإمداد، لم يعد ممكناً تمويل الكهرباء والخبز والمحروقات بذات الكميات السابقة، فتحوّل الدعم إلى قرعةٍ غير عادلة، ومناطق تنال ومناطق تُحرم وفق الولاء، وفئات محظية تفوز بحصص مضمونة فيما الأغلبية يُترك مصيرها للسوق.

هذا العجز المالي ضرب الحلقة الأوسع للسيطرة، فالمحافظات بلا موازنات تشغيل، والمشافي دون مستلزمات، والمدارس بدأت بإنتاج جيل متراجع علمياً. أما في المستوى الأمني، فقد أصبحت كلفة الولاء دولارية بامتياز، عبر سلطة وذخيرة، وكلّها تمد عبر عملة صعبة نادرة. عند هذه النقطة، لم يعد ممكناً إدامة الولاءات إلا عبر السماح بمزيدٍ من الجبايات غير الرسمية والاقتصاد الموازي، وهو ما قَوّض الاقتصاد الحقيقي.

هكذا تدريجياً تبدّل الميزان بمرور الوقت، ومع اتّساع فجوة العيش بين الوعود والواقع، تراجعت قدرة النظام على تغطية العجز، وانتهت أدوات التسكين للشارع. وحين انطلقت ردع العدوان، وجدت منظومة الحكم نفسها بلا وقود، وأصبح جنود النظام وعناصره والمقربون منه يلهثون لإخراج ما جمعوه خلال سنوات والهرب أمام ضربات القوات العسكرية للثورة السورية دون اكتراث للمدن التي تتحرر خلفهم واحدة تلو الأخرى.

صدمات الخارج وتحوّلات الإقليم وجفاف موارد الإسناد الخارجي.

لم يجر الانهيار في فراغ جغرافي، فاقتصاد النظام كان يتنفّس لسنوات عبر أنابيب خارجية، مثل الاعتماد على الوقود الإيراني وخطوط الإمداد النقدي، وشبكات تمويل مظلّلة، وممرات لوجستية تحكمها تفاهمات ظرفية، إضافة لدور اقتصادي روسي في الموانئ والفوسفات والإمداد القمحي والطاقي وبالطبع الإمداد العسكري. لكنّ الحالة تبدّلت تباعاً، فانشغال الداعم الروسي بأولوياتٍ خارجية مثل حرب أوكرانيا استنزف قدرته على تغطية الفجوة النفطية والذخائرية.

وكما أنّ تشديد الامتثال الدولي عبر العقوبات مثل قانون قيصر حدَّ من قنوات التمويل الإيرانية وشبكاتها. ومع تصاعد الضربات على المخازن والمعابر ومسارات الإسناد من قبل إسرائيل، صار وصول كلّ شحنة يحتاج سلسلةَ التفاف أطول وكلفةً أعلى ومخاطرةً أكبر، أي زمناً لا يملكه اقتصاد يدير الندرة.

هذا التحوّل أصاب القلب اللوجستي للنظام بمقتل، فشحّ الوقود عطّل النقل العسكري والمدني معاً، وقلّة قطع الغيار أطالت زمن الأعطال وخفّضت الجاهزية، واضطراب المعابر الحدودية بسبب إغراق دول الجوار بالكبتاغون قطع الإيرادات. حتى اقتصاد الظل الذي مثّله اقتصاد التهريب بدأ يتعرّض لاهتزازات متكرّرة مع تغيّر مواقف العواصم والحدود تجاه النظام السوري البائد.

عند لحظة ردع العدوان، كان هذا كلّه يعني شيئاً بسيطاً ووحيداً، كلفة الصمود ارتفعت فيما هبطت قدرة التمويل إلى قاعها. لم يعد ممكناً تعويض النقص بضخّ خارجي أو اتفاق جانبي مثلما جرت العادة. هنا، ظهرت الحقيقة المحجوبة طويلاً، اقتصاد يعتمد على إسناد خارجي غير مستقر لا يصمد حين تتبدّل الرياح، بل ينهار أسرع ممّا تتبدّل الخرائط.

بشكلٍ عام، ما حدث في معركة ردع العدوان كان نتيجة حتمية لمسار طويل من الانحدار الاقتصادي الذي كان مساهماً رئيسياً في معركة إسقاط النظام خلق القدرات العسكرية والأمنية والاستخباراتية للفصائل العسكرية للثورة السورية، وكانت مؤشرات الليرة قد فقدت دورها كسعر إشارة، والتضخّم التهم الأجور والمدّخرات، والخزينة بلا موارد، والقطاعات منهارة، والعقوبات أعادت تشكيل السوق على مقاس الظل، وريعية حرب اشترت الوقت وباعت الدولة. 

وعند لحظة الاختبار، كانت كلفة السيطرة أعلى من طاقة التمويل، فتهاوت حلقات الولاء والإمداد قبل أن تتهاوى المواقع. بذلك، كشفت ردع العدوان الهشاشة الاقتصادية للنظام البائد التي تراكمت حتى وصلت إلى نقطة الكسر.

شارك

مقالات ذات صلة