تأملات
لا أعرفُ ماذا سأقول عن يوم التاسع والعشرين من نوفمبر للعام 2025، ظننتهُ حفل توقيع لكتبي، أو حفلَ تأبينٍ لأطفالي الشهداء، أو إعلاناً عن جائزة د.سعاد الصباح للطفل الغزي المبدع، حتّى تبيَّنَ لي بأنّه يومٌ من أيامِ الله عزّوجل، في كلّ تفصيلةٍ من تفاصيله، وقد أشهدني اللهُ حبيبي على يومٍ جميل من أيامه في هذه الدنيا العابرة.
كنتُ أدعو الأصدقاء وأقول لهم “أنتم مدعوون إلى حزنٍ جميل”، لا أعرفُ كيف جرى على لساني هذا المصطلح وكيف تنزّلَ على قلبي، لكنّه كان كذلك.
دعوتُ الله عزّ وجلّ أن يصنعَ تفاصيلَ هذا اليومِ على عينه، كانتْ صديقتي فاطمة أخبرتني ليلتها أن أرتدي (بروش) يوم الحفل، فأخرجتُ واحداً ظننتهُ لائقاً بلباسي لكنّه كان يحمل (ماركة شانيل) وضعتهُ على مكتبي لأتذكره صباحاً وغفوت، فسمعتُ في منامي صوتاً يقول لي: (لا ترتدي بروش ماركة شانيل إنّها تدعم الاحتلال وهي مقاطعة)، مجرّد أن صحوت، قمت بعملية البحث عبر جوجل فوجدت أنَّ ماركة شانيل مقاطعة وهي من أكبر الشركات دعماً للاحتلال، دمعت عيوني، وألقيتُ بالبروش بعيداً، ذهبت لقاعة الحفل مبكراً، وجدتُ صديقتي فاطمة في انتظاري، قلت لها وأنا أقفز من السعادة: (سيكون يوماً من أيام الله، لقد رأيت كذا وكذا)، هذه إشارة إلى أنّ الله عزّ وجل اعتنى بكلّ تفاصيل هذا الحفل الجميل ..
لقد حضر أطفالي الحفل، على يقينٍ بهذا، شعرتُ بفخرٍ عجيب، وتذوّقتُ معنى أن تكون إنساناً تمشي على الأرض لكنَّ هنالك قطعة من جسدك تحلّقُ حول العرش، هكذا وكأنّ روحك تمتزج بينَ عالمين، تنفحُ من عالم الملكوت (الآخرة) ما يجعلُ تجربتها في عالمِ الملك (الدنيا) تجربةً عظيمة.
– هل هكذا يصبح الحزن جميلاً؟
– ربّما عظيماً وجليلاً ومهاباً أيضاً
تقول لي صديقتي هبة:
– لقد كانت قوّتكِ في الحفل مُبْهِرَة.
قلت لها:
– حتى أنا لم أعرف كيف تنزّلت عليَّ هذه القوة، كيف كنت أخاطب أولادي في أشعاري وكأنّهم يجلسون أمامي حقّاً ولم يغيّبهم الموت، بل وكنتُ في أحيانٍ كثيرة أشيرُ إلى صورهم وأبتسم لهم، حتى قلتُ لأحدِ الحاضرين في نهاية التوقيع، هل تعلم سيعيش يامن وكنان وأوركيدا وكرمل أكثر من الأحياء على الأرض، سيصبح ذكرهم خالداً في الأرض كما في السماء، وسيعيش أناسٌ أكثر من 100 عامٍ ربّما ولن يذكرهم أحد، وسيكون موتهم كحياتهم.
شكراً لله عزّ وجلّ
لأنّ الدنيا عابرة وقصيرة، ولأنّها ليست دارنا، وليست مستقرّنا، ما أعظم نعمة الآخرة، وما أعظم نعمة إدراك ماهية أنّها دنيا فانية.
إنّ إدراك فناء الدنيا سمح لي بالتصالح مع خساراتها الظاهرية، وجعلني كثيراً لا أتوقف عن كلمة لماذا، تنتصر في قلبي دائماً (الله يعلم وأنتم لا تعلمون) وتزهو في داخلي آية (وما عند الله خيرٌ وأبقى)، فكم عليّ أن أشكر الله عز وجل على نعمة تذوقي لهذا المعنى العظيم، أنّ ما لديه هو الأجمل والأكمل والأعظم، وأنّ التجارة معه رابحة جداً، وإنّ ظنّها الجاهلون فقداً أو تشرداً أو ضياعاً، تماماً كما إخوة يوسف وهم يضعون يوسف داخل الجبّ، يظنّونَ أنّها نهايته، لكنّها كانت البداية العظمى للتمكين الأعظم.
ها أنتِ تُولَدين من جديدٍ يا آلاء، بل ها أنتِ تملكينَ أجنحةً من نورٍ، وتختالين بأربعة ملائكةٍ لا يفارقونكِ أبداً، فأيُّ كرامةٍ وتكريمٍ هذا؟
نعم، إنّني أُوْلَدُ من جديد، مع كلّ ثانيةٍ أتذوق فيها معنىٍ ملهماً من معاني آياتِ القرآن الكريم، أو فهم السنة النبوية، أو القرب النبوي من سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آل بيته العظماء.
في التاسع والعشرين من نوفمبر للعام 2025
شهدتُ ولادتي
وعرفت أنَّ قلبي الذي وضعته في يد الله عزّوجلّ منذ أول لحظةٍ فقدت بها أطفالي قد أزهر (خيمة في السماء، فراشتي التي لا تموت، أوركيدا، يكلّمني كنان)
لقد كانت أربعة كتب، لا بل كانت أولادي جميعاً، لا بل كانت كلّ شهداء غزّة
شكراً ياربّي حبيبي على كلّ معنى جميل تذيقني إياه في حياتي، شكراً يا سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّك قريبٌ منّي دائماً ولأنّني على يقينٍ بأنّكَ كنت حاضراً معي في الحفل، وشكراً د.سعاد الصباح لأنّكِ كنتِ جزءاً من يومٍ من أيامِ الله في حياتي.



