سياسة

تحرير حماة.. انتصار الذاكرة على الخوف

ديسمبر 2, 2025

تحرير حماة.. انتصار الذاكرة على الخوف

في لحظةٍ تاريخية لم تُسجّل كنصرٍ فحسب، بل اعتبرت استعادة لصوتٍ فُقد منذ مجزرة الثمانينيات في حُكم حافظ الأسد لسوريا..عامٌ على تحرير مدينة حماة، المدينة التي عاشت 40 عاماً من الصمت المفروض، دوّت زغاريد النصر في شوارعها ليس احتفالاً فقط، بل إعلاناً لبداية جديدة من زمن الحرية وزوال زمن الرعب الذي طبع ذاكرتها الجمعيّة.

 مشهدٌ بدا استثنائياً حتى في سياق الانهيار العام للنظام البائد، لأنّ حماة لم تكن مدينة عادية، بل رمزاً للخوف الذي صِيغت عليه علاقة السوريين بالسلطة لعقود.

تحرير المدينة لم يكن مجرّد انتصار عسكري تحقق بعد أشهر من التحضير في ريف حلب الغربي ووسط أجواء يأسٍ عمّت مخيمات الشمال، بل مثّل تحوّلاً نفسياً وسياسياً في الوعي الثوري ذاته، فالمقاتلون الذين خاضوا المعركة لم يحملوا أسلحتهم فقط، بل حملوا ذاكرة آبائهم الذين أُبيدوا تحت الدبابات في الثمانينيات.

بهذا المعنى، لم تكن حماة آخر المدن التي تسقط عسكرياً، بل أول المدن التي تتحرّر رمزياً.

 

خطة التحضير وانطلاق شرارة الردع

 لم يكن نصر حماة بناءً هشاً أو من فراغ، بل كان نتاج أيامٍ وأشهر من التحضير الهادئ في كلّ من ريف حلب الغربي وريف إدلب ومحيط المخيمات التي تحوّلت لمراكز تخطيط قوى.

وفي شهر تشرين الثاني 2024، انتهت قوى الثوار والمعارضة من استكمال الجاهزية الكاملة لمعركة تحرير سوريا والتي عُرفت لاحقاً باسم عملية ردع العدوان، والتي انطلقت بشكلٍ رسمي في 27 من الشهر نفسه، حتى تضع حداً لمعركة استنزاف طويلة على جبهات الشمال السوري.

ما ميّز هذه المعركة في الحقيقة هو نقطة التحوّل لدى فصائل الثوار والمعارضة في الشمال والتي كانت متناحرة سياسياً وعسكرياً، لتجد الفصائل نفسها أخيراً متحدة من شتاتٍ إلى قوى ميدانية، مشكّلة بذلك غرفة عمليات مشتركة مستجيبة لوعي تأخر إدراكه طويلاً، وكان مفاده أنّ التجزئة لم تعد تجلب مكاسب استراتيتجية تخدم مصالح الثورة السورية، هذه الوحدة ولو بحدودها الدنيا، صنعت نقطة تحوّل بارزة، أعادت الثقة لدى صفوف المقاتلين وبدّلت ميزان القوى بشكل كلّي.

في المقابل، وفّرت بعض خطوط الإمداد دعماً بأسلحة نوعية، من دفاعٍ جوي تكتيكي وقذائف دقيقة واتصالات مشفّرة، ما سمح بتنفيذ عمليات خاطفة أوقعت النظام البائد في حالة ارتباك دفاعي، لم يكن تفوق السلاح وحده هو العامل الحاسم، بل القدرة على إدارة العجز وتحويله إلى تكتيك، فالمعركة لم تملك وفرة ذخيرة، ولا خطوط تموين آمنة، لكن القيادة الميدانية عوّضت ذلك بسرعة التحرك والضربات المركّزة.

من خلف خيام النزوح، وُلدت خطة التحرير، لم تكن حماسة الثوار وحدها ما دفع المعركة للأمام، بل تَحوّلُ الإحباط الجماعي إلى قرارٍ منظّم، المخيمات التي مثّلت لعقدٍ من الزمن عنواناً للعجز صارت نقطة انطلاق للفعل، وهنا يتجلّى جوهر الرأي: “أنّ تحرير حماة لم يكن نتاج سلاح جديد متطور بقدر ما كان ثمرة نضج تنظيمي واجتماعي أنهى طور الانتظار وافتتح طور المبادرة”.

 

5 كانون الأول: لحظة تحوّل أمام أعين المدينة.

الدخول لمدينة حماة كان حدثاً رمزياً أكثر من أنّه حدث عسكري، ففي ساعات الصباح الأولى من الخامس من كانون الأول 2024 انكسرت قواعد ونقاط جيش نظام الأسد البائد واحدة تلو الأخرى، تحت ضربات وحدات الثوار باستخدام طائرات مسيّرة محلية حملت اسم “الشاهين”، الحقيقة أنّ صبر 14 عاماً من الثورة والمعاناة احتاج أخيراً استخدام سلاح مفاجئ يقلب الطاولة في ميزان القوى على الأرض وسط وجود مليشيات إيرانية مدججة بالسلاح، لكنّها سقطت في هذا السلاح المحلي “مسيّرات الشاهين”، هذه المسيّرات مثّلت دلالة على نضج تقني ذاتي لدى الثوار، وكسرت احتكار التفوق الجوي الذي استخدمه النظام وحلفاؤه لعقدٍ كامل من الحرب.

 انسحابٌ متسارعٌ لمليشيات نظام الأسد البائد وحلفائه من مركز مدينة حماة، وسط تقدّم كبير من قبل فصائل الثوار، لتنتشر في الوقت نفسه صوراً على وسائل إعلامية رافقت الثوار في المعركة، تُظهر استقبالاً غير مسبوق منذ بداية الثورة. مشاهد النساء اللواتي أطلقن الزغاريد من النوافذ لم تكن استعراضاً شعبياً بل إعلاناً عن كسر حاجز الخوف الذي طبع علاقة المدينة بالسلطة منذ مجزرة الثمانينيات.

في اليوم نفسه، سُجّل تحرير سجن حماة المركزي بعد اشتباكات قصيرة مع الحرس، وأُفرج عن عشرات المعتقلين الذين تحوّل خروجهم إلى صورة رمزية لانهيار آلة القمع التي مثّلها النظام لعقود، تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعربية هذه المشاهد بوصفها اللحظة المفصلية في معركة إسقاط النظام البائد، فيما رأى محللون في مراكز بحث إقليمية أنّ الحدث أطلق موجة سياسية جديدة في المنطقة، عنوانها سقوط حليف موسكو وطهران الأبرز في المشرق العربي.

تحليلياً، لم يكن ما جرى في حماة تغييراً في خطوط السيطرة فقط، بل إعادة صياغة لهوية المدينة ودورها في الوعي السوري. فالمكان الذي اختُصر يوماً في مجزرة، عاد ليُعرّف نفسه كرمزٍ للقدرة على التجاوز والمبادرة.. ومن هنا، بدا الخامس من كانون الأول لحظة تحوّل لمجمل الصراع السوري، حين تحوّل الخوف إلى ذاكرة، والمبادرة إلى عنوانٍ جديد للحرية.

 من الثمانينيات إلى التحرير

لا يمكن أن نذكر حماة، أو نقرأ فيها دون الولوج إلى عام 1982، حيث إنّ ذاك التاريخ مرتبط بعقدة جماعية طال أمدها أربعة عقود، وحوّلت الذاكرة المحلية إلى ساحةٍ لصراع بين الخوف والكرامة، هذه الحقيقة لا تُلغي تفرد لحظة الخامس من كانون الأول 2024، لكنّها تفرض على التحليل قاعدة أساسية: الرمزية وحدها لا تكفي، ولا تُلغِي الحاجة إلى آليات واضحة للعدالة وإعادة البناء.

ما جرى في حماة لم يكن مجرّد استبدال لراية أو تغيراً في خطوط السيطرة، بل فعلٌ رمزي أعاد للمدينة قدراً من احترام ذاتها بعد سنوات من الإذلال السياسي والممارسات القمعية، الزغاريد والصور وفتح السجون اختزلت عقدة تاريخية في مشاهد قوية تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والسلطة.

الدرس التحليلي واضح؛ الاحتفاء مشروع، لكن الأولويات العملية أعلى، إذا لم تُرافق الرمزية خطوات مؤسسية، توثيق للانتهاكات، محاكمات متخصصة، برامج مصالحة ذات مصداقية، وخطط لإعادة الإعمار تُشرك المجتمع المحلي، فستبقى الذاكرة مشوّهة وإمكانية تكرار الانتهاكات قائمة، السؤال الذي يفرض نفسه على حماة وعلى سوريا عموماً ليس ما إذا كانت المدينة قد تحررت رمزياً، بل ما إذا كانت قادرة على تحويل ذلك التحرّر إلى إطار حكم وآليات تمنع عودة الاستبداد والانتقام، فالذاكرة لا تُمحى بالزغاريد وحدها؛ بل تحتاج إلى مؤسساتٍ تحميها من الاندثار أو التشويه.

 

العدالة وإدارة فترة ما بعد التحرير.

التحرير، مهما بدا مشهداً مبهجاً في عيون المنتصرين، ليس سوى بداية الطريق الصعب، فمدينة كحماة، التي دُفنت مرتين، مرّة تحت ركام 1982، ومرّة تحت صمت العالم، تستحق أكثر من لحظة احتفال عابرة، ما تعرّضت له حماة في عهد حافظ الأسد لم يكن عملية عسكرية فحسب، بل جريمة منظّمة لإبادة هوية المدينة وإخماد روحها السياسية والدينية والاجتماعية.

 واليوم، بعد أكثر من أربعة عقود، يأتي التحرير ليعيد طرح السؤال ذاته: كيف يُنصف من ظُلِم دون أن يُظلَم أحد مجدداً؟

المرحلة التالية للمعركة تتطلب ترتيباً دقيقاً لا يقلّ أهمية عن القتال نفسه، لتأتي مهمة إعادة الخدمات الأساسية: الماء، الكهرباء، والطبابة لأنها أول ما يختبر الناس من معنى الدولة بعد التحرير.

أمّا على الصعيد القضائي، فحماة مطالبة بوضع نموذج مختلف للعدالة الانتقالية، لا يقوم على الثأر بل على المحاسبة المنهجية. تشكيل محاكم متخصصة للتحقيق في جرائم النظام ورموزه، مع إشراك المجتمع المحلي ومنظمات قانونية مستقلة.

المعركة لم تنتهِ في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر؛ إنّها انتقلت من الميدان العسكري إلى الميدان الأخلاقي والإداري، إنّ أعظم انتصار يمكن أن تحققه حماة ليس في عدد الحواجز التي سقطت، بل في قدرتها على بناء نظام عادل مع سوريا الأمل يردّ المظالم دون أن يكرّرها، فالمدينة التي ظُلمت مرتين تستحق أن تُكتب هذه المرة بيد العدالة.

بعد عامٍ على التحرير، تثبت حماة أنّ النصر لا يُقاس بعدد الأيام بل بقدرتنا على صون روحه، ما جرى في الخامس من كانون الأول لم يكن نهاية الحرب فحسب، بل بداية وطنٍ جديدٍ يصنعه السوريون بتكاتفهم، بالعدالة لا بالانتقام، وبالذاكرة لا بالنسيان، ردع العدوان تحوّل إلى وعدٍ بالنهضة.

 

 

 

 

شارك

مقالات ذات صلة