سياسة
لم يكن مشهد سقوط بشار الأسد حدثاً عابراً في الوعي العربي. تلك الصورة التي بدت لسنوات مستحيلة، خرجت فجأة من نطاق الحلم ومن هامش التحليل السياسي، لتصير واقعاً تشهده دمشق وتعيد عبره تشكيل الخريطة النفسية والسياسية للعالم العربي. فالأسد لم يكن مجرّد حاكم متسلط؛ كان رمزاً لصمود نظام دموي في وجه شعبه، ولعجز محيطه عن تغييره، ولانكسار موجات التغيير العربية قبله. سقوطه لم يكن نهاية نظام فحسب، بل كسراً للسقف الذي وُضع فوق الشعوب منذ انطفأت آخر شرارات الربيع العربي.
لكنّ الحدث، على ضخامته، لم يُقس فقط بميزان الجغرافيا السياسية أو توازنات القوة، بل بما استدعاه من أسئلة أعمق: هل يُعدّ ما جرى في سوريا امتداداً متأخراً لذلك الربيع الذي بدأ في تونس؟ أم هو ظاهرة منفصلة، بمسارها وخطابها وزمنها؟ هل أعاد الربيع السوري الاعتبار للثورة العربية الكبرى التي وُئدت؟ أم أنّه تجاوزها، وتبرّأ من هشاشتها، وكتب سيرته الخاصة بأصابع الدم والصبر والمراكمة الطويلة؟
في اللحظة التي بدا فيها أنّ سؤال الربيع العربي قد أقفل، جاء التصريح اللافت للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع ليضيف طبقة فكرية على الموقف السياسي، حين قال في لقاء مع وفد إعلامي عربي: “لسنا امتداداً لأيّ حركة. لسنا امتداداً للربيع العربي”. التصريح يحمل قطيعة متعمدة مع الرمزية، ويعلن عن بناء جديد لا يستعير قاموسه من أحد.
هذا المقال لا يسرد تحولات سياسية، بل يتأمل في مفارقةٍ تاريخية: أن تأتي الثورة الأخيرة، في أكثر الساحات دموية وتعقيداً، فتنضج وحدها، وتفرض حضورها بعد أن ظنّ الجميع أنّها خُتمت. وهو يحاول أن يفهم: هل تفوّق الربيع السوري على الربيع العربي؟ وهل ما حدث في دمشق هو استكمالٌ لما بدأ في تونس، أم تجاوز له؟ وكيف انعكس هذا كلّه على موقف العرب: دولاً، وشعوباً، وأنظمة؟
الربيع العربي: الحلم والانكسار.
انطلقت شرارة الربيع العربي من تونس في لحظة خاطفة، وأشعلت خيال الشعوب كما لم تفعل أيّ موجة سياسية منذ عقود. سقطت أنظمة خلال أسابيع، وارتجّت عواصم كانت تبدو عصية على التغيير. بدا كأنّ التاريخ استيقظ دفعة واحدة، وقرر أن يمنح الناس فرصة أخرى للتنفس خارج عباءة الخوف. امتدت النار إلى مصر، ثم ليبيا واليمن وسوريا، كأنّ الوعي الجمعي العربي وجد نفسه أخيراً على الخريطة، لا مفعولاً به بل قوة فاعلة تُعيد تعريف السلطة والمواطنة والدولة.
لكن الحلم كان هشاً، واليقظة غير مكتملة. سُرعان ما عادت الأنظمة بأقنعةٍ جديدة، أو نبتت سلطات أشد قسوة من سابقاتها. في مصر، اختُزلت الثورة إلى مشهدٍ انتخابي هش، ثم أُطيح بكلّ ما حققته في انقلابٍ صامت العنف. في ليبيا واليمن، سقط النظام وسقط معه تماسك الدولة، فدخلت البلاد في دوامة الفوضى والسلاح والانقسام. وحدها تونس حافظت لبعض الوقت على وهج التجربة، قبل أن تنهكها صراعات الداخل وضغوط الخارج، وتتراجع إلى مزيج مألوف من الاستقرار الحذر والركود السياسي.
وفي هذه المسارات جميعاً، بدأت الفكرة ذاتها -فكرة الثورة- تُستنزف رمزيّاً. صار الربيع العربي مرادفاً للفوضى، أو للغدر، أو على الأقل للوهم. تركت الشعوب الساحات لا لأنّها اقتنعت، بل لأنّها انكسرت. ساد خطاب يقول إنّ “الواقع أقوى من الحلم”، وإنّ الديمقراطية ترف لا طاقة لنا به، وإنّ ما حدث لم يكن ربيعاً، بل خريفاً دموياً نُفيق منه على لا شيء.
في هذا السياق، ولدت القناعة أنّ الربيع العربي انتهى. لا فقط بفشل مآلاته، بل أيضاً بانهيار رمزيته. من تونس إلى القاهرة إلى صنعاء، تقاطعت الخلاصات: “جرّبنا… وخسرنا”. وسوريا، حينها، بدت للجميع عند أقصى حدود هذه الخسارة.
الربيع السوري
ما من ثورة دُفعت إليها الشعوب كما دُفعت سوريا نحو ثورتها، وما من شعبٍ جُرّب عليه كلّ أشكال الإبادة والتخوين والتواطؤ كما جُرّب على السوريين. كانت الثورة السورية -منذ بدايتها- ابنة زمن عربي مشتعل، لكنّها ما لبثت أن صارت اختباراً منفرداً للضمير الإنساني، لا للحراك السياسي فقط. بدأت بهتافٍ خجول في درعا، ثمّ تمددت مثل الندبة في جسد بلد جريح، تواجه رصاصاً، وقصفاً، وسجوناً، وفتاوى، وأجهزة مخابرات، ومليشيات، وخذلاناً، وصمتاً عربياً طويلاً.
لم تُمنَح هذه الثورة رفاهية الزمن. بينما سُمح للثورات الأخرى أن تُجرّب وتعثر وتتصالح، صُنّفت الثورة السورية منذ أيامها الأولى كـ”مؤامرة”. حُوصرت بخطابات الهوية، وتُرك النظام يمارس أبشع أنماط البطش بلا حساب. في السنوات الأولى وحدها، قُتل عشرات الآلاف، وتحوّلت مدن بكاملها إلى ركام. ثم، حين خشي النظام من سقوط محتوم، أدخل إيران وحزب الله، ولاحقاً روسيا، بكلّ ما تحمله من قسوة وأسلحة وسياسات الأرض المحروقة.
ورغم ذلك، لم تمت الثورة. لم تخرج القيادة الموحدة من رحمها، نعم. ولم تنجُ من التشظي، ومن تغلغل الفصائلية، ومن احتلال الأجندات الإقليمية لأراضيها، نعم. لكنّها لم توقّع على استسلام. لم تخضع لصفقة، ولم تُمنح منصباً ليتوقف صوتها. كلّ ما جرى كان كفيلاً بأن يُنهيها كفكرة، لكن السوريين لم ينهوا الرواية. بل راكموا، وصمدوا، وخرجوا بعد سنوات من الخراب، إلى إسقاط حقيقي للنظام، لا عبر المفاوضات ولا الانقلابات، بل بالتآكل الصبور، بالاختراق البطيء، بالثبات الذي لا يُكتب في نشرات الأخبار.
ملايين السوريين دفعوا ثمن هذا الربيع. أكثر من نصف مليون شهيد موثق، مئات الآلاف من المعتقلين والمختفين، وأكثر من نصف الشعب مشرّد بين اللجوء والنزوح الداخلي. مدن مسحتها الطائرات، قرى هجّرت عن بكرة أبيها. أجيال نشأت على أنقاض المدارس، وشهدت طفولتها تنزف تحت القصف. ولا عاصمة عربية، ولا عاصمة عالمية، استطاعت أن توقف هذه المجزرة. العجز كان دولياً، لكنّه كان عربياً أولاً.
ومع ذلك، وحتى في قلب هذا الدمار، بقي جوهر الثورة: أنّ الشعب لم يسكت، ولم يساوم، ولم يستبدل استبداداً بآخر. لا الإخوان سيطروا على المسار، ولا الفصائل نجحت في اختطاف الركب تماماً، رغم خطفها من فيه. ظلّ هناك تيار طويل النفس، وافر الإيمان، غير مسيّس بالمعنى التقليدي، يعمل على الهامش، ويوثّق ويُنظّم ويخطّط، ويكتب ويؤرشف وينتظر.
كانت سوريا -أكثر من أيّ بلدٍ آخر- مختبراً مفتوحاً على كلّ سيناريوهات الفشل. لكنّها أنتجت مع الوقت وعياً مركباً، شجاعاً، نقياً من الغرور، ومبنياً على فهمٍ عميق للثمن. ولهذا، حين سقط الأسد أخيراً، لم يكن مشهد الانتصار عاطفياً ولا شعبوياً، بل كان أقرب إلى تنهيدة طويلة: تحقق ما لا يُصدّق، لكن بسعر لن يستطيع التاريخ أن يردّه.
وهكذا، لم يكن الربيع السوري “أنقى” من سواه، لكنّه كان الأكثر صبراً، والأعلى كلفة، والأوضح أخلاقاً. لم تُسرَق روايته بالكامل، ولم تُشطب صورته. وحين جاء زمن التغيير، لم يأتِ بصخب، بل بيقينٍ شاق، مشبع بالتعب والخسارة… لكن دون انكسار.
إعلان الشرع القطيعةَ مع النموذج
وسط حالة التأويل العربي لسقوط الأسد، وبين موجات الترحيب الصريح أو الصمت المدروس، جاءت كلمات الرئيس الشرع لتفعل ما لم تفعله البيانات السياسية: أن تعيد تعريف ما جرى. في لقائه مع الوفد الإعلامي العربي في دمشق أواخر آب/ أغسطس 2025، قال الرئيس السوري الجديد بوضوح: “لسنا امتداداً لأيّ حركة. لسنا امتداداً للربيع العربي.”
كان التصريح كأنّه حجر يُلقى في بحيرة التحليلات. في وقتٍ كانت معظم القراءات تضع ما حدث في سوريا ضمن لحظة استئناف لمسار 2011، جاء الشرع ليرفض هذه الوراثة، لا بلهجة عدائية، بل بلغة تأسيسية. بدا أنّ سوريا الجديدة لا تريد الانتماء لا إلى الأحزاب الإسلامية التي شوّهت بعض المسارات، ولا إلى البدايات المتفائلة التي لم تصمد في وجه الواقع. هو ليس إنكاراً للثورات، بل قطيعة مع رمزية اختُرقت وأُفرغت من معناها.
تصريح الشرع لا يمكن قراءته كجملة دعائية. هو، بالأحرى، محاولة لرسم هوية سياسية جديدة، لا تستعير شارات غيرها ولا تقفز على تجارب الآخرين، بل تنطلق من واقعها الفريد. ثورة أكلها اللهيب، ولم يُتح لها وقت للعب السياسة، تخرج الآن لتقول: “نحن لا نستلهم أحداً، بل نبتكر مسارنا”.
في عمق التصريح، إعلان رفض للتبعية الرمزية، لا السياسية فقط. بل رفض أن تُلحق التجربة السورية بما قبلها، أو تُختزل بوصفها تأخُّراً زمنياً عن تونس أو القاهرة. الشرع لا ينكر حقّ الشعوب في الثورة، لكنّه لا يقبل أن يكون انتصار السوريين مجرّد ترس في سردية صارت قديمة ومُنهكة. ما حدث في سوريا، بحسب هذا المنطق، ليس تتويجاً لمسار الربيع العربي، بل لحظة تأسيس مغايرة، قد تُعيد رسم المعنى مجدداً، لكن بشروط مختلفة، وبنبرة لا تُشبه نبرة البدايات.
ولعلّ أهمّ ما في هذا الموقف، أنّه لا يُراد منه استعلاء، بل تجنيب الثورة السورية أن تُختصر في ثوراتٍ لم تُنقذ شعوبها، وأن تتعلّق بمرجعيات لم تحمِ مشروعها. هو تمييز واعٍ بين الانتماء إلى روح الشعوب، والانجرار خلف تجارب مخذولة. فالسوريون لم يخسروا ليُقال عنهم إنّهم “حاولوا”، بل أرادوا أن يُقال إنّهم أنجزوا ما لم يُنجز، لا لأنّهم وُفّقوا، بل لأنّهم ثابروا حيث توقّف الجميع.
ربيعان لا يشبهان بعضهما.
حين أُطلقت تسمية “الربيع العربي” على سلسلة الثورات التي اندلعت في مطلع العقد الماضي، لم يكن في البال أنّ هذا المصطلح سيتحوّل لاحقاً إلى عبءٍ رمزي. هوية جامعة لموجات احتجاج متباعدة في السياق، ومتشابهة في المطلب، أُلبست لباساً واحداً، ثمّ أُدينت دفعة واحدة حين فشلت بعضها أو انقلبت على ذاتها. هكذا، صارت المقارنة لاحقاً بين التجارب محكومة بمقاييس الاستقرار لا بالكرامة، وبنتائج الصناديق لا بتضحيات الشوارع. وفي خضم هذا التقييم السريع، سقطت الفروق الدقيقة بين ما جرى في تونس، وما حدث في ليبيا أو مصر أو اليمن، وسوريا.
لكن الثورة السورية -بفعل عزلتها الطويلة وكلفتها الثقيلة- نضجت خارج هذا السياق. لا تشبه تونس التي أسقطت نظامها خلال أسابيع، ولا مصر التي خُطفت ثورتها بين صناديق وانقلابات، ولا ليبيا واليمن اللتين احترقتا في لعبة السلاح. سوريا لم تسقط النظام في بدايتها، لكنّها لم تستسلم، ولا عادت إلى الوراء. كانت ثورة في الزمن الطويل، وفي المساحة المستباحة، وفي الاحتمالات المستحيلة.
الربيع العربي، في شكله الأول، حمل طاقة الانفجار. كان مباغتاً، طافحاً بالإيمان، لكنّه قليل التروّي. سقطت رموز الاستبداد بسرعة، ولم يكن ثمة مشروع جاهز لليوم التالي. أمّا الربيع السوري، فبدأ متأخراً وانتهى متأخراً، وبهذا تحوّل إلى أرشيفٍ حيّ للثورات العربية: اختبر ما اختبروه جميعاً، من عسكرة، وتطييف، وتدويل، وتشرذم… لكنه لم ينهِ رحلته بالخلاصات نفسها.
لم يُختطَف الربيع السوري لأنّ أحداً لم ينجح في احتكاره. فشلت المعارضة التقليدية في تمثيله، وانهارت الفصائل المتطرفة، وتحوّلت الساحات السورية إلى معارك متقاطعة لكن بلا صوت واحد. وهذا في ذاته، على قسوته، شكّل ضمانة ضد التسطيح. بقيت الثورة بلا ناطق رسمي، لكنّها لم تكن بلا ضمير. كان صوت أمّ الشهيد، والمعتقل، والنازح، والموثق، والمهجّر، جميعهم، يشكّلون روايتها الجماعية.
لهذا، لا يصح أن نضع ربيع سوريا وربيع العرب في سلّةٍ واحدة. ليس فقط لأنّ الأول طال زمنه وتعدّدت أطرافه، بل لأنّه انتهى بإنجاز سياسي فعلي، حيث سقط رأس النظام بعد سنوات من التكلس، في وقت كانت فيه بقية الثورات قد أُقفلت سياسياً أو اختنقت. بل الأهم، أنّه لم ينتهِ بتسوية خارجية، ولا بمناورة من النظام نفسه، بل بانكشاف شامل أدّى إلى انهياره من الداخل، واستلام المعارضة الحكم لا منحة، بل استحقاقاً متراكماً.
وهكذا، لم يكن الربيع السوري أنقى ولا أعدل، بل كان ببساطةٍ أصدق في تتبعه لمسار الألم حتى نهايته. لم يكن رديفاً للربيع العربي، بل ربيعاً آخر، له مفرداته، ودماؤه، وهزائمه، ونجاته الخاصة.
كيف استقبل العرب سوريا الجديدة؟
لم يكن استقبال العرب لسقوط نظام الأسد احتفالاً جماعياً، ولا إعلان ندمٍ على سنوات التواطؤ والصمت. كان المشهد أكثر تعقيداً: مزيجاً من الدهشة والترقّب وإعادة الحسابات. فبينما بادرت بعض العواصم إلى إرسال الوفود وفتح السفارات والتهنئة العلنية، اكتفت أخرى بالتصريح الحذر، أو التريّث في اتخاذ موقف واضح. بدا أنّ العرب، على اختلاف أنظمتهم وتجاربهم، لم يكونوا مستعدين لسقوط الأسد، أو على الأقل لم يتوقعوا حدوثه بهذه الطريقة.
اللافت أنّ الدول العربية لم تتعامل مع سوريا الجديدة كما تعاملت مع بقية الثورات. لم يُنظر إليها كحالةٍ احتجاجية طارئة، ولا مرحلة انتقالية تحتاج إلى الرعاية والضبط، بل دولة آتية من اختبار بالغ القسوة، تستحق الاحترام وربما الخشية. الزيارات الرسمية كانت كثيرة، لكن سقف الخطاب السياسي ظل متزناً. لا غزل مفرط، ولا شروط معلنة. كأنّ دمشق خرجت من السجن لا لتطلب الانضمام إلى الطاولة، بل لتضع كرسيها الخاص وتعيد ترتيب المقاعد.
أما الشعوب، فكان تفاعلها متبايناً: في بعض العواصم خرجت تجمعات صغيرة ترفع علم الثورة وتبكي بحرقة سنوات الدم الطويل، وفي أخرى ظل الصمت سيد الموقف، كأنّ الجميع لم يصدّق بعد. لكن شيئاً واحداً كان حاضراً في الوعي العام: سوريا لم تعد عبئاً، ولا ملفاً إنسانياً مؤلماً، بل أصبحت -من جديد- فاعلاً في العالم العربي، لكن هذه المرة من موقع الندّ، لا المستجدي.
هكذا، لم تكن عودة سوريا إلى الحضن العربي استلحاقاً بماضٍ منقطع، بل فرضاً لواقع سياسي جديد لا يشبه السياق الذي وُئدت فيه الثورات السابقة. لم يذهب العرب إلى دمشق ليأخذوا بيدها، بل ليؤكدوا لها أنّهم فهموا الدرس، أو على الأقل، لا يريدون تجاهله مجدداً.
هل نقيس الثورات بنتيجتها.. أم بعنادها؟
ربما لا يكون منصفاً أن نضع الثورات كلها في ميزانٍ واحد، أو نُجري بينها سباقاً على الجوائز. لكن سوريا فرضت المقارنة حين فتحت جرحها كاملاً، وصبرت عليه، ثمّ خرجت منه لا بخطاب انتصار، بل بحضور لا يمكن إنكاره. كان يمكن لهذه الثورة أن تُدفن مثل غيرها، أن تُفرغ من معناها، أو أن تُنسى مع الوقت، لكنّها رفضت كلّ ذلك، واستمرّت، وإن بصمت ثقيل وممتد.
السوريون لم ينالوا دولتهم كما يحلمون، ولا استعادوا أرواحهم كاملة. الخسارات تفوق الوصف، والثمن لا يمكن استرداده. لكن ما لم يُنتزع منهم، رغم كلّ شيء هو القيمة: أنّهم ثاروا، ثمّ واصلوا، ثم انتظروا. لم يستبدلوا الطغيان بطغيان آخر، ولم يُغلقوا قوسهم بأيّ صفقة ناقصة. ولهذا، حين سقط الأسد، لم يكن أحد بحاجةٍ إلى تفسير المشهد؛ كانت النتيجة بحد ذاتها شهادة كافية.
فهل هذا هو التفوّق؛ أن تصل متأخراً، لكن من دون تلوث، من دون تسوية، من دون انحناء؟ وهل نقيس الثورات بنتيجتها فقط، أم بعنادها الطويل على أن لا تختصرها نهاية قسرية؟ الربيع السوري، في المحصلة، لم يُكمل ما بدأه غيره.. بل أعاد طرح السؤال كله.
ولعلّ السؤال الآن لم يعد: هل تفوّق؟ بل: هل نحن جاهزون لنفهم ما فعله، وما فعله فينا؟



