Blog
جمان حسن
تعود ذاكرة العنف والقصف والاعتقال اليوم إلى قرية بيت جن، بعد أن اعتقد أهلها أن سلسلة الرعب انتهت بسقوط نظام الأسد الذي طالما نكّل بهم وحاصرهم وضربهم واعتقل أبناءهم وأخفاهم في السجون. لكن المشهد يعود اليوم بوجه آخر؛ فقد عاد التوحش والقمع، هذه المرة في شكل اعتداءات إسرائيلية غادرة على القرية وسكانها، وقصف يهدّد المدنيين ويستهدف ما تبقى من بيوت هذه القرية وبساتينها ومزارعها بعد أن أحرق النظام ومليشياته جزءاً كبيراً منها.
ما إن أقرأ خبر صدّ أهالي بيت جن الهجوم الإسرائيلي حتى يعود إليّ ديجافو قديم؛ أخبار صدّهم اقتحامات النظام السوري ومليشياته للمنطقة مع بداية الثورة. المعنى السياسي واحد: بطولة ووعي جماعي يقف بوجه الدكتاتورية والاحتلال معاً، بلا مواربة.
تظهر على الشاشة امرأة من بيت جن. لا أعرفها، لكني أشعر كأنني أعرفها منذ زمن بعيد. تقول بلهجة “جنانية” مألوفة جداً: “النظام قتل زوجي وأخذ الولاد.. وهلأ هدول جايين ياخدوا الولاد. ما صدّقنا إمتى خلّصنا منه. تعربشت بالولد عربشة”.
كلماتها بالنسبة لي ليست مجرد شهادة ولا خبراً ثقيلاً ضمن أخبارنا اليومية الثقيلة، بل جرح أعرف مساحته، جزء من حياة نشأتُ بين أطرافها. أعرف وجوه أهل بيت جن ولكنتهم ولهجتهم الفلاحية، أعرف التعب على وجوههم، أعرف ذاك التهميش الذي عشناه سويةً كجزء من هويتنا بسبب عزل النظام لنا لقربنا من الحدود مع إسرائيل، وصعوبة حياتنا التي لم تتغير.
أشعر أنني رأيت وجهها عشرات المرات رغم أني غادرت منذ زمن لكن هذه وجوه حياتي الأولى، على الطرف الآخر أرى كنى الناس على الشاشة، أعرف هذه العائلات جيداً. أنظر إلى والد العريس الشهيد، يحكي عن ابنه وعن زفافه، ابنه البطل الذي قاوم الأسد سابقاً واليوم قاوم إسرائيل عدونا الأزلي واستشهد عريساً ثائراً. أرى صورة الشهيد وكلمات والده وأشعر أني أعرف هؤلاء الناس ولو أننا لم نلتق يوماً، ربما التقينا صدفة في الشارع منذ زمن بعيد، نشبه بعضاً.
ولدت في قرية قريبة من بيت جن، أنا بنت القنيطرة وجبل الشيخ، تشابكت حياتنا الاجتماعية والاقتصادية مع بيت جن، ثم تشابكت ثورياً. جزء من طفولتي وذاكرتي ارتبط ببيت جن. كبار السن هناك كانوا أصدقاء جدي، نزورهم في أراضيهم، نأكل المشمش والتفاح والكرز. منذ أن غادرت سوريا، أرفض أكل المشمش والكرز، لأنه في بيت جن وحدها يكون ألذ، أقول للناس دائماً: لو ذقتم مشمش بيت جن لعرفتم لماذا ما نأكله هنا ماء، ليس المشمش في بيت جن ذكرى مجردة في ذاكرتي، يكفي أن أرى أي امرأة أو رجل يعملون في هذه البساتين وألقي السلام، حتى يعطوني حبات المشمش بكرم وشهامة يشبه أي شيء في هذه القرية. كل فلاح فيها يشبه جدي، درست مع أبنائهم في المدرسة، واختبأت في أحد بيوتهم عندما بدأ القصف العشوائي في قريتي. نعم، بيوتهم، لأننا نسكن عندهم ويسكنون عندنا، وكأن الحدود بين القرى هناك غير موجودة.
هم جيراننا وأنسباؤنا. نتشارك أخبارهم وخاصة بعد الثورة كما نتشارك أخبار قريتنا، نعرف العائلات والكنى ويعرفوننا جيداً. أذكر تماماً سنوات الثورة الأولى عندما ثارت بيت جن وبدأ الفرع ملاحقة أبنائها واعتقالهم، كل بضعة أيام كان يصلنا خبر أن الفرع العسكري يلاحق ثائراً من بيت جن، أو كناكر، أو اعتقل مجموعة منهم. نسمع عن صدهم للنظام، تشابكنا أيضاً في الثورة، اعتقل شباب القرى مع بعضهم، رأيتهم في رمضان 2012 يدخلون مسجد قريتي يعتقلون شباب قريتنا، بين الأسماء أيضاً شباب من بيت جن عاشوا بيننا زمناً. اشتبكنا ثوريا وطبياً واليوم يعود هذا الارتباط مرة أخرى، رباط الألم مجدداً. أبناء القرى المحيطة ببيت جن يهرعون لإسعاف جرحاهم بأيديهم، يحاولون مداواة المصابين بما توفر، لأن لا نقطة طبية هناك، مشهد مكرر من الألم والعدوان على أبناء بيت جن، وكذلك نضالهم ضد العدوان.
عودةً إلى هذا العدوان، في الحقيقة لم تهنأ محافظة القنيطرة وقرى جبل الشيخ بزوال النظام كلياً، الاعتداءات الإسرائيلية بما فيها من قصف وإطلاق رصاص واعتقال وجرف أراض وهدم بيوت وحرق أشجار لم تتوقف منذ سقوط النظام، واستمرارها أصبح جزءاً من الواقع اليومي المعاش في المنطقة، لا نعتاد العدوان لكنه موجود وأكبر من طاقتنا وطاقة قرانا المرهقة والهشة كما باقي سوريا، وهي الآن أكثر هشاشة لأنها تواجه عدواً إبادياً رأيناه في غزة ولبنان، ونعرفه في فلسطين والجولان منذ عقود.
الموقع الجغرافي لبيت جن جعلها عرضة لعمليات الاعتداء من الجيش الإسرائيلي، فهي من قرى جبل الشيخ قريبة من الحدود اللبنانية ومن الجولان السوري، موقعها جميل ومميز لولا أن إسرائيل وبشار الأسد جزء من تاريخ بلادنا.
استهدفت إسرائيل على نحو متكرر أهالي القرية، اعتقلت في حزيران/ يونيو 7 شبان، وفي العملية الأخيرة التي صدها الأهالي اعتقلت 3 شبان. 10 شبان اُعْتُقِلُوا من أراضيهم وبيوتهم ودولتهم وسحبهم إلى أراضي الكيان الصهيوني دون أي خبر أو معلومة عنهم، تُرك أهلهم وحدهم يعيشون مرارة الاختفاء القسري مرة ثانية بعد أن فُقد معظمهم أبناء في سجون النظام السوري، لا سؤال ولا خبر ولا مسؤولية من أي طرف تساعد هؤلاء الأهالي وتطمئنهم.
في بيت جن، ما يحدث اليوم ليس مجرد ردّة فعل عاطفية أو انفجار غضب مؤقت. ما يفعله أهل القرية هو امتداد طبيعي لمسار سياسي واحد اختاروه منذ عقود: الثورة ضد من يحاول فرض السلطة بالعنف، من يعتدي على الأراضي والبلاد، لا فرق إن كان نظاماً مجرماً أو احتلالاً إبادياً. لم تكن مواجهتهم لدورية الجنود الإسرائيليين التي اقتحمت بيوتهم حدثاً عابراً؛ كانت جزءاً من وعي جماعي تشكّل بدايةً مع الثورة وعبر سنوات طويلة من الحصار والاعتقالات والاجتياحات التي نفذها الأسد ومليشياته، وعي سياسي نسج لنفسه ملامح واضحة: رفض الاستبداد، رفض العدوان ورفض كل قوة تعامل الناس كرهائن أو تابعين.
حين يقف أبناء بيت جن في وجه الاقتحام الإسرائيلي، فهم لا يفعلون ذلك لأنهم يرغبون في الحرب أو القتال، فهم مثل باقي الشعب السوري يريدون بداية آمنة بعد زوال عقود من الإجرام الاستبدادي والتدمير الممنهج لبلادهم. هم يفعلون ذلك لأن البوصلة السياسية والوطنية لم تتغيّر، هي نفسها التي وجّهتهم ضد النظام ومليشياته، وذاتُها التي تدفعهم اليوم لرفض العدوان الاحتلالي. قرية صغيرة بعدد سكان محدود تعطي مثالاً وطنياً عظيماً واتساقاً سياسياً نادراً: أن تقف ضد الظلم والعدوان، وأن تدافع عن كرامتك وأرضك، وأن ترى أن الحرية ليست مجزأة، وأن كرامة الناس وحريتهم لا تتغير وهي الثابت الوحيد في هذه البلاد.
لا أعرف ما هو الحد الفاصل بين القرب الجغرافي والقرب النفسي، لكنهم أهل قريتي التي لم أعش فيها، وهم مألوفون كأنهم جيراني، وذاكرتي التي يشكلون جزءاً أساسياً منها.
اليوم، وأنا أرى القصف والاعتداءات، أشعر بالغضب مرة أخرى، غضب لتركهم وحدهم في مواجهة عدو إبادي تعجز عن مواجهته دول، أشعر بالغضب لأن بلدنا مستباحة، وأشعر بالغضب لأن بيت جن جزء من حياتي ومن ذاكرتي قبل وبعد الثورة، ذاكرة الألم والخوف والثورة.
تعود لنا ذاكرة الخوف اليوم مرة ثانية، لا نعرف ما القادم، ولا نريد أن نفقد أبناءنا وأرضنا وبيوتنا، لكننا أصحاب هذه الأرض والبلد القاسية.