Blog
ظاهر صالح
في خرقٍ صارخ وفاضح للأعراف والمواثيق الدولية، تجاوزت اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي السورية مجرّد القصف الجوي المعتاد، لتصل إلى التوغل البري المباشر، كما وقع فجر الجمعة في بلدة بيت جن بريف دمشق الغربي. إنّ اقتحام قوات الاحتلال، وتحديداً لواء المظليين (55)، بذريعة “القبض على مطلوبين”، لا يشكّل مجرّد عملية عسكرية عابرة، بل هو تحدٍ وجودي للسيادة السورية ومحاولة مقصودة لتغيير قواعد الاشتباك.
كشفت تفاصيل هذه العملية، التي أدت إلى استشهاد 13 مواطناً سورياً، بينهم أطفال ونساء، وإصابة العشرات، عن استراتيجية توسعية جديدة تهدف إلى تعميق حالة الضعف والفوضى. لكنّها كشفت في الوقت ذاته عن عامل حاسم لم يكن في حسبان الاحتلال الإسرائيلي، وهو الصمود البطولي والأصيل للسكان المدنيين الذي تحوّل إلى خط دفاع قتالي غير متوقع.
استراتيجية “القضم البطيء”.
تأتي عملية بيت جن في سياقٍ تاريخي وجغرافي شديد الحساسية، فالمنطقة الجنوبية الغربية المتاخمة للجولان المحتلّ، هي خطّ تماس ملتهب. إنّ اختيار الاحتلال الإسرائيلي لهذه المنطقة الاستراتيجية يهدف إلى تفكيك أيّ تموضعٍ عسكري محتمل، ولهذا التوغل أهداف أوسع بكثير من مجرّد اعتقال أفراد:
– انتهاك السيادة وتوسيع نطاق العمليات، الانتقال من الضربات الجوية إلى الوجود البري المؤقت يرسّخ فكرة أنّ العمل العسكري للاحتلال الإسرائيلي لم يعد مقتصرًا على الجوّ، محقّقًا بذلك ما يُعرف بـ “القضم البطيء للسيادة” السورية.
– فرض إيقاع عسكري واستنزاف، تهدف هذه العمليات إلى فرض إيقاع عسكري متقطع، وتجميع معلومات استخباراتية ميدانية لتعزيز هيمنة الاحتلال الإسرائيلي على التخوم الجغرافية القريبة من الجولان المحتل.
الصمود الشعبي وقلب المعادلة في الميدان
في خضم هذه المعادلة العسكرية والسياسية القاسية، برز الصمود الشعبي في بيت جن ليقلب التوقعات، فبينما كانت قوة الاحتلال الإسرائيلي تعتقد أنّ العملية ستكون خاطفة، فاجأها أهالي البلدة بمقاومة شرسة.
فرأينا الاشتباك البطولي عندما اندلعت اشتباكات مسلحة بطولية استمرت نحو ساعتين، تمكن خلالها الأهالي من محاصرة مجموعة من جنود الاحتلال، وخسائر وارتباك في صفوف الاحتلال الإسرائيلي، إذ اضطر جيش لاستخدام المدفعية والمسيرات لتخليص جنوده من الحصار، تاركاً خلفه آلية عسكرية معطوبة اضطر سلاح الجو لقصفها لمنع وقوعها بيد الأهالي، وتضاربت الأنباء حول عدد الإصابات في صفوف جنود الاحتلال، ممّا أشار إلى حجم الخسائر التي وصفتها وسائل إعلام إسرائيلية بأنّها استثنائية ومثيرة للقلق.
هذه المقاومة كشفت عن سوء تقدير حاد داخل القيادة الشمالية للاحتلال الإسرائيلي، وأكّدت أنّ إرادة السكان المدنيين هي خطّ الدفاع الحقيقي والفعّال، وأنّ سياسة الترهيب والمداهمات لم تكسر عزيمة الأهالي.
تداعيات سياسية وصمت دولي مُشجِّع
تتجاوز تداعيات العملية حدود البلدة لتؤثر على الاستقرار الإقليمي، لكن الأخطر هو:
– الصمت الدولي الفعّال وغياب الإدانة الرادعة أو اتخاذ إجراءات عقابية هذا الصمت.. يُضعف الموقف السوري ويكشف عن هشاشة سيطرة الدولة ويعمّق الشعور بالعجز أمام الاعتداءات المتكررة.
– تشجيع على العدوان ومساندة الاحتلال الإسرائيلي في مواصلة نهجه العدواني وترسيخ الأمر الواقع عبر التوغلات المتكررة، ممّا يفاقم حالة التوتر ويزيد من احتمالية تصعيد عسكري أوسع.
ثبات الأهالي هو الرواية الأقوى في ظل توغل الاحتلال الإسرائيلي في بلدة بيت جن وصمة عار على جبين المجتمع الدولي الذي يقف عاجزاً أو متواطئًا أمام انتهاكات السيادة السورية، لقد كشفت العملية عن استراتيجية توسعية وقدرة الاحتلال على تجاوز كافة الخطوط الحمراء، ومع ذلك، فإن هذه الاعتداءات لن تمحو ولن تكسر العزيمة السورية.
إنّ ثبات الأهالي في بلدة بيت جن والمناطق المحاذية، وتمسكهم بالبقاء في أرضهم والاشتباك البطولي دفاعاً عنها، هو الرواية الأقوى التي يجب أن تُسمع، إنّه يثبت أنّ استعادة السيادة لا ترتبط فقط بالجيوش والمعاهدات، بل تبدأ بالصمود الشعبي الذي يرفض التهجير ويبقى شاهداً حياً على عدالة قضيته، وسيظل هذا الصمود هو الردّ التاريخي الأبقى على محاولات فرض الأمر الواقع بالقوة.


