سياسة
في الـ27 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، انطلقت معركة “ردع العدوان” التي غيّرت وجه التاريخ السوري الحديث. لم تكن معركة عسكرية فحسب، بل كانت اللحظة التي انهارت فيها المنظومة الأمنية لنظام بشار الأسد، والتي شكّلت لعقود العمود الفقري لسلطته. وبعد 11 يوماً فقط، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته، سقط النظام ومعه جهازه الأمني الذي مثّل “رأس الحربة” في قمع السوريين منذ عام 2011.
لكن الحقيقة، كما يؤكد باحثون ومراقبون تحدثت إليهم منصة “سطور”، أنّ الانهيار لم يكن وليد تلك الأيام القليلة، بل نتيجة تآكلٍ بطيء ومتدرّج بدأ منذ انطلاقة الثورة السورية واستمر على مدى 14 عاماً، حتى تحوّل النظام الأمني إلى هيكلٍ هشّ تتقاسمه الولاءات الخارجية والانقسامات الداخلية والفساد المستشري في جسده.
منظومة القمع إلى منظومة الانهيار.
منذ اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011، بنى النظام السوري استراتيجيته الأمنية على أساسٍ واحد: القمع اللامحدود. فقد تحوّلت أجهزة المخابرات الأربعة – الجوية، العسكرية، العامة، والسياسية – إلى أدواتٍ لإرهاب المجتمع بدل حمايته، مستندة إلى منظومة ولاءات عائلية وطائفية وشبكات فساد متجذّرة.
على مدى سنوات، كانت تلك الأجهزة تملك اليد العليا في الدولة السورية. تُقرّر من يُعتقل ومن يُفرج عنه، من يعيش ومن يُقتل تحت التعذيب، ومن يُمنح فرصة النجاة عبر الرشوة أو الواسطة. لكن هذه الأجهزة نفسها، التي ترعرعت على ثقافة الولاء الشخصي لبشار الأسد، بدأت تفقد تدريجياً وظيفتها الأمنية الحقيقية أمام تعدد القوى المتدخلة في الشأن السوري، وعلى رأسها روسيا وإيران وحزب الله، الذين اخترقوا البنية الأمنية من الداخل.
“الانهيار لم يكن وليد 11 يوماً”
يقول الباحث في شؤون الصراعات في بلاد الشام وحوض المتوسط فراس فحّام في حديثٍ لمنصة “سطور”: “لا يجب النظر إلى انهيار النظام والمنظومة الأمنية على أنّه حدث خلال 11 يوماً فقط. ما جرى هو نتيجة عملية تآكل استمرت على مدار 14 عاماً من المواجهات مع الشعب أولاً، ثمّ مع الفصائل العسكرية. هذا التآكل تزامن مع تدهور الوضع الاقتصادي، ومع اختراقات متعددة للأجهزة الأمنية من قِبل إيران وروسيا وإسرائيل”.
ويضيف فحّام أنّ تلك الاختراقات لم تكن مجرّد حالات فردية، بل إعادة تشكيل حقيقية لبنية الأمن السوري. فكلّ طرف خارجي كان يسعى لترسيخ نفوذه عبر زرع موالين له داخل الأجهزة الأمنية. يقول: “إيران تدخلت في هذه الأجهزة وفرضت موالين لها، وكذلك روسيا، بل وحتى إسرائيل تمكنت من تنفيذ اختراقات سواء عن طريق الأموال أو الامتيازات، ما جعل عمل هذه الأجهزة متضارباً ومتعارضاً أحياناً”.
ويرى الباحث أنّ العقوبات الغربية المفروضة على النظام منذ سنوات، أسهمت هي الأخرى في تجميد قدراته التكنولوجية، إذ أصبحت الأجهزة الأمنية عاجزة عن تطوير أدواتها أو استقدام تقنيات جديدة لمراقبة الداخل، ما جعلها “أجهزة متهالكة قديمة لا تستطيع مجاراة التحديات”.
ويضيف فحّام أنّ أخطر مظاهر هذا التهالك تمثَّل في فشل الأجهزة الأمنية في التنبؤ بمعركة “ردع العدوان”، رغم أنّ حلفاء النظام، إيران وروسيا، رصدوا التحركات وأبلغوه بها. “لكن يبدو أن تقديرات الأجهزة لم تكن دقيقة، أو ربما لم تكن تملك الجرأة على إبلاغ القيادة بحجم الخطر الحقيقي”، يقول فحّام.
ثغرات بشرية ومالية في جدار الأمن.
وفقاً للمصادر الميدانية التي تابعت سير المعارك، فإنّ سقوط المدن الكبرى في الشمال والوسط لم يكن نتاج تفوقٍ عسكري فقط، بل نتيجة تفكك الولاءات داخل صفوف النظام نفسه. فقد ظهرت مؤشرات على تفاهمات بين بعض الفصائل وقيادات محلية في النظام، الأمر الذي أسهم في تحييد جبهات كاملة دون قتال.
يوضح فحّام ذلك بالقول: “كان هناك حديث عن تحييد بعض المناطق عبر تفاهمات بين هيئة تحرير الشام ولواء الباقر، بحكم الانتماء القبلي المشترك، كما تمّ شراء ولاءات قيادات عسكرية بأموالٍ ضخمة. لذلك يمكن القول إنّ الانهيار لم يكن حصيلة المعركة وحدها، بل نتيجة تراكمات فساد وولاءات متضاربة منذ سنوات”.
“جهاز أمن مريض في بنيته”
من جهته، يرى الباحث والضابط السابق رشيد حوراني أنّ انهيار المنظومة الأمنية لم يكن مفاجئاً لمن يعرف بنيتها من الداخل. يقول في حديث لـ “سطور”: “أجهزة الأمن لدى النظام كانت قبل الثورة وخلالها تعاني خللاً بنيوياً كبيراً. فهي لا تعمل وفق خطة أمنية مدروسة، بل وفق رغبة السلطة ونزواتها. كلّ جهاز يسعى إلى نيل رضا القيادة حتى لو كان ذلك على حساب الأجهزة الأخرى. وصلت الأمور إلى أن تنصب الأجهزة الفخاخ لبعضها البعض”.
ويضيف حوراني أنّ هذه الفوضى البنيوية جعلت المنظومة الأمنية غير قادرة على مواجهة تحديات طويلة الأمد. ومع امتداد عمر الثورة، وخصوصاً بعد فشل النظام في تحقيق أيّ اختراق سياسي رغم محاولات التطبيع التركية، بدأ يتكوّن شعور عام داخل صفوف الأجهزة والجيش بأنّ النظام فقد القدرة على الحسم.
“حين رفض النظام التقارب مع تركيا رغم دعوات السياسيين الأتراك، شعر الكثير من العاملين في هذه الأجهزة أنّ القيادة فقدت البوصلة، فزهدوا في استمرار العمل بنفس الآلية الفاشلة. ومع تفاقم الفساد ورفض الحاضنة الشعبية لهم بسبب الابتزاز والسرقات، تراجعت الروح المعنوية بشكل كبير”.
ويرى حوراني أنّ التدخل الروسي والإيراني لم يكن فقط على مستوى الدعم العسكري، بل أضعف أيضاً الثقة بين ضباط الأمن السوريين. فقد بات كثيرون يدركون أنّهم مجرّد أدوات بيد حلفاء النظام، ما جعلهم يفقدون الانتماء المهني والوطني.
ومع انطلاق معركة “ردع العدوان”، واستخدام غرفة العمليات المشتركة حرباً نفسية واسعة، شعرت الأجهزة الأمنية بعدم جدوى المواجهة، بحسب حوراني: “اختارت كثير من تلك الأجهزة الفرار بدل الاستسلام. رأينا كيف أحرقت بعض الفروع الأمنية وثائقها قبل انسحابها، خوفاً من أن تُستخدم لاحقاً لإدانتها بجرائم ضد الشعب السوري”.
انهيار الهرم من الرأس إلى القاعدة.
المنظومة الأمنية التي بناها حافظ الأسد على مدى عقود، ثم وسّعها بشار بعد 2000، كانت تقوم على شبكة من الترهيب والثقة المطلقة بين القاعدة والقيادة. ومع انكشاف رأس الهرم السياسي خلال الأسابيع الأخيرة للنظام، تحوّلت تلك الثقة إلى شكّ متبادل. بدأت سلسلة الانشقاقات داخل الأجهزة، حيث فرّ ضباط من المخابرات الجوية إلى مناطق المعارضة، فيما سلّمت فروع كاملة نفسها دون قتال في دير الزور وريف حلب.
وبحسب معلومات حصلت عليها “سطور” من مصادر خاصة في وزارة الداخلية السابقة، فإنّ بعض القيادات الأمنية رفضت تنفيذ أوامر الدفاع عن دمشق خلال الأيام الأخيرة، معتبرة أنّ المعركة خاسرة وأنّ استمرارها “انتحار سياسي”.
هذا الانقسام العمودي بين “الموالين حتى الموت” و”الواقعيين الباحثين عن النجاة” عكس عمق التآكل داخل المنظومة الأمنية التي كانت يوماً أكثر أجهزة القمع انضباطاً في الشرق الأوسط.
إنّ انهيار المنظومة الأمنية للنظام لم يكن نتيجة معركة واحدة، بل ثمرة لتفاعل 5 عوامل أساسية تراكمت منذ عام 2011، أولها فقدان العقيدة الأمنية الوطنية: إذ تحوّلت الأجهزة إلى أدوات لحماية النظام لا الدولة، وفقدت صلتها بالمجتمع الذي يفترض بها أن تحميه. والاختراق الخارجي والتنازع بين الحلفاء، إذ تقاسم الروس والإيرانيون النفوذ داخل الأجهزة الأمنية حتى باتت تعمل وفق أجندتين متناقضتين، بينما نفذت إسرائيل اختراقات محدودة لكنّها مؤثرة.
كما أنّ الفساد الإداري والاقتصادي، إذ أصبح ضباط الأمن أصبحوا الحرب، يديرون شبكات تهريب ومخدرات، ما أفقدهم الانضباط والهيبة. بالإضافة إلى الضغط الدولي والعزلة التقنية، حيث عطلت العقوبات قدرة الأجهزة على تحديث نفسها، فباتت تعمل بتقنيات عتيقة وأساليب تقليدية أمام ثورة رقمية هائلة، فيما جاء آخرها الانفصال النفسي عن الواقع، فمع طول أمد الحرب وتآكل الأمل بالانتصار، فقد العاملون في الأجهزة الدافع للبقاء، وتحوّل الخوف إلى ملل، والولاء إلى مصلحة شخصية.
في النهاية، لم تنهر المنظومة الأمنية لأنّ “ردع العدوان” باغتها فقط، بل لأنّها كانت تقف على رمال متحركة منذ سنوات طويلة. جاءت المعركة لتكشف هشاشتها وتسرّع سقوطها، تماماً كما تسقط شجرة نخرتها الحشرات قبل أن تهزها الرياح.
حين تنقلب أدوات القمع إلى عبء.
حين انهار النظام المخلوع في كانون الأول 2024، لم يكن ذلك مجرّد سقوطٍ سياسي، بل انهياراً كاملاً لعقيدة القمع التي حكمت سوريا لعقود. الأجهزة التي كانت تزرع الرعب في نفوس الناس، باتت هي من يعيش الرعب والارتباك، تحرق وثائقها وتفرّ من مقراتها. لقد أثبتت التجربة أنّ الأمن الذي يُبنى على الخوف، لا على الثقة، لا يصمد أمام لحظة الحقيقة. وهكذا، انتهت منظومة الأسد الأمنية بنفس الطريقة التي حكمت بها: بالخوف، والخيانات، والتصدّع من الداخل.




