مدونات

مسارات التهجير البطيء في الضفة: هندسة صامتة لواقع يُعاد تشكيله

نوفمبر 26, 2025

مسارات التهجير البطيء في الضفة: هندسة صامتة لواقع يُعاد تشكيله

الكاتبة: نانسي رضوان

تشهد الضفة الغربية مرحلة شديدة الحساسية عقب توقف الحرب في غزّة، حيث تتداخل الاعتداءات اليومية للمستوطنين مع العمليات العسكرية الإسرائيلية في مشهدٍ يتجاوز التوترات الموسمية المعهودة، ليكشف عن تحول منهجي وبطيء في إعادة رسم الواقع الميداني. فالمؤشرات المتلاحقة لا تبدو مجرّد أحداث ظرفية، بل عناصر في استراتيجية ضغط متراكمة تستند إلى أدواتٍ أمنية واقتصادية واجتماعية وهويّاتية، تستهدف تقليص القدرة على البقاء في المناطق المستهدفة، وإنتاج بيئة تتآكل فيها مقومات الصمود تدريجيًّا.

الضفة.. جبهة ملتهبة بصمت.

أظهرت تقارير عبرية، أبرزها في هآرتس ومعاريف، تحولًا واضحًا في الرؤية الأمنية تجاه الضفة الغربية، مع تركيز على ضرورة “توسيع النشاط الأمني” بعد انتهاء المعركة في الجنوب. ورغم تقديم ذلك بوصفه لمنع الاحتكاك، فإنّ الوقائع الميدانية تشير إلى العكس تمامًا. فعمليات “إعادة الانتشار” و“فتح مسارات أمنية جديدة” جاءت متزامنة مع زيادة واسعة في الحواجز وتشديد القيود على التنقل واتساع نطاق الاقتحامات، مستفيدة من حالة الفراغ السياسي في إسرائيل لاستعادة الردع عبر الساحة الفلسطينية.

توثق بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) اعتداءات متكررة للمستوطنين تشمل قطع الطرق، ورشق المركبات، وتكسير نوافذ سيارات تقل عائلات، ومنع الوصول إلى الأراضي الزراعية، ما يجعل التنقل اليومي محفوفًا بالمخاطر. وتبدو هذه الاعتداءات جزءًا من منظومة ميدانية ذات طابع متدرّج تدفع السكان إلى تغيير المسارات، وتقييد الحركة، والتنازل التدريجي عن الفضاء الحيوي، بما يفضي إلى إحكام السيطرة على الجغرافيا الفلسطينية ببطء وهدوء.

شبكة الحواجز: تفتيت الجغرافيا اليومية.

برزت شبكة الحواجز بوصفها إحدى الأدوات المركزية في إعادة تنظيم المشهد الميداني. وتشير تقارير حقوقية وميدانية إلى أنّ الضفة تضم أكثر من 900 حاجز وبوابة عسكرية، تستخدم لتفتيت التواصل الجغرافي وتقييد الحركة الداخلية. وتترافق هذه المنظومة مع ارتفاع الاقتحامات، وزيادة الاعتقالات، وتدمير البنى التحتية في المدن والمخيمات، ما يُعسْكِر الحياة اليومية بشكلٍ متدرّج.

ولا تقتصر هذه المنظومة على الحواجز الرئيسية، بل تمتد إلى بواباتٍ زراعية وممرات فرعية تخضع لمنطق الإغلاق والفتح وفق اعتباراتٍ أمنية متغيرة، ما يحوّل التنقل إلى عملية معقّدة تستنزف الوقت والجهد والموارد، وتفرض على السكان إعادة صياغة نمط حركتهم اليومية.

الخنق الاقتصادي: ضغط هادئ يعيد تشكيل الحضور.

يتوازى التصعيد الأمني مع ضغوطٍ اقتصادية تتعمّق مع الوقت. فبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغت البطالة 28.6% في الربع الثاني من عام 2025، مع توقعات بالوصول إلى 38.5% بنهاية العام، نتيجة الإغلاقات وانخفاض ساعات العمل وتراجع القدرة الشرائية. وتترافق هذه الأزمة مع ممارسات منظمة للمستوطنين في المناطق الريفية والحضرية تشمل إغلاق طرق، ووضع عراقيل حجرية، والاعتداء على مركبات تجارية، واعتراض شاحنات.

وتزداد حدة الضغط خلال المواسم الزراعية، خاصة موسم الزيتون، الذي يشهد اعتداءات مباشرة على المزارعين والمحاصيل، ما يؤدي إلى خسائر في الإنتاج، وارتفاع كلفة النقل، وتعطّل سلاسل التوريد. وفي المدن، يؤدي إغلاق المحاور التجارية أو استهداف المركبات إلى تعطيل الحركة التجارية لساعات، وتأخر وصول البضائع، وتضرر المخازن، ليصبح الضغط الاقتصادي جزءًا من آلية تفكيك الحضور الفلسطيني.

هندسة التفكك الاجتماعي والنزوح الهادئ.

لا يقتصر أثر هذا المسار على الجغرافيا المادية، بل يمتد إلى النسيج الاجتماعي. فالعسكرة والضغط الاقتصادي والعنف الاستيطاني تدفع نحو تشكل وحدات اجتماعية أصغر وأكثر عزلة، حيث تتراجع الروابط بين المدن والقرى نتيجة ارتفاع كلفة التنقل وصعوبة الوصول إلى أماكن العمل والتعليم. ويتطور هذا الواقع إلى نزوحٍ داخلي بطيء، تنتقل فيه العائلات من مناطق أكثر تعرضًا للقيود إلى أخرى أقل خطرًا. ورغم غياب الإحصاء الرسمي لهذه التحركات، فإنّ انعكاساتها تظهر في تراجع الأنشطة التجارية، وإغلاق مشاريع صغيرة، وضعف الاستثمار في المجال العام، وتآكل الروابط التقليدية.

التهديد الهوياتي والديني: ضربة في العمق.

يتخذ الضغط شكلًا أكثر خطورة حين يمس الرموز الدينية والثقافية. فقد وثّقت قناة الجزيرة اعتداء مستوطنين على مسجد في بلدة دير إستيا، شمل إشعال النار وكتابة شعارات عنصرية وحرق نسخ من القرآن الكريم. وأشارت ذا غارديان إلى اعتداءاتٍ مشابهة في قريتي بيت ليد ودير شرف تضمنت حرق مركبات وتدمير ممتلكات. وفي تدخل نادر، وصف الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ هذه الهجمات بأنّها “خطيرة وصادمة”، غير أنّ الرسالة الميدانية تبقى أكثر دلالة: استهداف الهوية جزء من هندسة الضغط الهادئ التي تعيد رسم المجال الثقافي الفلسطيني.

واقع يُعاد تشكيله دون إعلان.

توضح هذه المسارات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والهوياتية أنّ الضفة الغربية لا تُعاد صياغتها بالعنف المباشر فقط، بل عبر تفكك متدرّج في القدرة على الصمود والبقاء. فتصاعد العسكرة، وتقييد الحركة، وتعميق الأزمة الاقتصادية، وتآكل الروابط الاجتماعية، وصولًا إلى ضرب الرموز الدينية، كلها تعمل كمنظومةٍ مترابطة تعيد تشكيل الجغرافيا والسكان بصمت.

ومع غياب أيّ مسارٍ سياسي قادر على وقف هذه التحولات، يصبح “التهجير البطيء” إطارًا تفسيرياً دقيقًا لفهم الواقع اليومي؛ فهو لا يُنفذ دفعة واحدة، بل عبر خطوات متسلسلة تتسلل إلى تفاصيل الحياة: الطريق، والبيت، والعمل، والهوية. وهكذا يتشكّل مستقبل غامض تتراجع فيه الثوابت، بينما تترسخ الضغوط الهادئة كقوةٍ تنظيمية لإعادة توزيع الأرض والسكان في مرحلة ما بعد الحرب.

شارك

مقالات ذات صلة