فكر

عن الذاكرة وما يتبقّى منها

نوفمبر 25, 2025

عن الذاكرة وما يتبقّى منها

في الذاكرة، لا تعود التجارب الكبيرة أولاً، ولا تستيقظ الصور التي ظنّنا أنّها ستظلّ أوضح ما نملك. بدلاً من ذلك، تعود التفاصيل التي مررنا بها كمن يعبر ماءً ضحلاً دون أن ينتبه للموجة الصغيرة التي لامست قدمه.
هكذا يعود إليّ ضوء ليد خافت، لم يكن يملك قوة كافية ليهزم الليل، لكنّه كان يملك ما يكفي ليؤجل اكتماله.
أفكر كثيراً في هذا النوع من التفاصيل التي لا نمنحها قيمة عندما نعيشها، لكنّها تصبح بعد سنوات أصدق ما يمكن أن نحتفظ به، كأنّ التجربة، بعد أن تبتعد، تختصر نفسها في شيء واحد يلمع داخل الظلام، وتقول: هنا، في هذا الوميض، توجد الحكاية كلها.

الذاكرة ليست صندوقاً بل حركة.

أحاول من حين لآخر تحديد بداية ما حدث.
لكن الذاكرة لا تعمل كبداية وخاتمة؛ إنّها أشبه بحركة مستمرة، تتسرب من مكانٍ لآخر، وتعيد ترتيب ما نظن أننا فهمناه.
نحن نبحث في الماضي عن نقطة نقول عندها: “هنا بدأ كلّ شيء”، لكن الماضي يرفض هذه الطمأنينة، ويعيد تقديم نفسه بوصفه شبكة أكثر منه خطاً مستقيماً.
كلّ لحظة تفتح باباً للتي تليها، ولا يمكن فصل إحداها عن الأخرى دون أن تتشوه الصورة.
ربما لهذا، مهما حاولت، لا أجد نقطة بداية واضحة، ولا لحظة تقول: هنا بدأ الخوف، أو هنا وُلد الأمل.
ما أعرفه فقط أنّ الذاكرة تصنع بداياتها الخاصة، وغالباً ما تختار اللحظات الهامشية لتضع فيها علاماتها.

عن الخوف الذي يسبق حدوثه.

من أغرب الحقائق أنّ الحدث لا يكون دائماً هو ما يترك أثره الأكبر. كثيراً ما يكون ما كاد يحدث هو ما يخلّف الندبة الأعمق.
الخوف الذي يتقدم الانفجار بثوانٍ، الصوت الذي نتخيله قادماً نحونا، الظلّ الذي يسقط على الأرض فنظنّه قنبلة. هذه الطبقات من الإدراك لا تُكتب عادةً في التقارير، لأنّها لا تُقاس ولا تُحصى.
لكنّها تصبح جوهر التجربة عندما نحاول فهمها بعد سنوات، فالخطر الحقيقي، في لحظات كثيرة، لم يكن ما وقع، بل ما كنّا نعتقد أنّه سيقع.
الخوف، بهذا المعنى، ليس ردّة فعل، بل وعيٌ متوتر، يربط بين الحياة والموت بخيط واحد لا نراه إلا حين يهتز.

 عن الصداقة التي تُولد لحظةً.

هناك تجارب تُعيد تعريف العلاقة بين الناس. في ظروف الحصار، مثلاً، كانت الصداقة لا تحتاج إلى وقت طويل. كان هناك إحساس بأنّ العمر، بكلّ ما فيه، مُختصر في يوم واحد، وأنّ الإنسان قد يغيب قبل أن يوقّع اسمه على علاقته بالأشياء.
لذلك كانت ضحكة قصيرة، أو سيجارة مشتركة بين اثنين كافية لتصنع علاقة تشبه الأخوّة.
وربما تكون هذه الروابط الشديدة، التي تولد من ضيق اللحظة، أحد أهم ما تبقى في الذاكرة حتى اليوم.
ليس لأنّها جميلة، بل لأنّها كانت صادقة بما يكفي لتقاوم هشاشة الزمن.

عن الفقد الذي لا يكتمل.

الفقد، مهما بدا واضحاً في لحظة وقوعه، لا يُفهم دفعة واحدة. يمرّ زمن طويل قبل أن ندرك أنّ الغياب لا يكتمل، وأنّ هناك أجزاءً صغيرة من الراحلين تبقى عالقة في حياتنا دون أن ننتبه.
جملة قصيرة قالها صديق، طريقة في الجلوس، حركة يد، أو حتى صمت مشترك.
هذه الأشياء تستمرّ في الدوران داخل الذاكرة كأنّها تبحث عن مكان مناسب للاستقرار.
والمفارقة أنّ الإنسان لا يتذكر لحظة الموت نفسها بوضوح، بل اللحظة التي سبقتها، الجملة الأخيرة، الارتجافة، التفاتة الرأس.
الفقد لا يُكتب كحدث حادّ، بل كبطءٍ يخترق الأيام، ويعيد نفسه كلما لامسنا شيئاً له علاقة بالماضي.

من يحقّ له أن يروي؟

مع مرور الوقت، يصبح سؤال السرد سؤالاً أخلاقياً بقدر ما هو تجربة شخصية.
من الذي يملك حق الحكاية؟ هل يحقّ للناجي أن يتحدث باسم من غابوا؟ وهل يصبح الماضي ملكاً لمن بقي، أم أنّ الكتابة نفسها نوع من التفاوض المستمرّ بين الحقيقة والذاكرة؟
العجيب أنّ السرديات الكبيرة، الروايات الرسمية، التقارير، الشروح، نادراً ما تمسك بروح التجربة. تبدو منظمة أكثر ممّا ينبغي، ومكتملة بطريقة لا تشبه واقع الحرب.
أمّا ما يشبه الحقيقة حقاً فهو ما يبقى خارج هذه السرديات: الأشياء الصغيرة التي لا تصلح كأرشيفٍ، لكنّها تصلح كحياة.

 عن الكتابة بوصفها نوراً صغيراً.

أحياناً أسأل نفسي لماذا أكتب.. لا لأعيد تشكيل الماضي، ولا لأمنحه معنى جاهزاً، بل لأمنح الذاكرة مكاناً تستطيع أن تتنفس فيه.
الكتابة، في هذا الشكل، ليست استعادة لما حدث، بل محاولة لحراسة ما تبقّى من أثره.
مثل ضوء صغير في غرفة مظلمة، لا يكفي لرؤية الأشياء كلها، لكنّه يكشف ما يكفي كي نستمر.
ولعلّ هذا ما يجعل الكتابة قريبة من فعل النجاة: كلتاهما تحاولان أن تمنعا العتمة من أن تكتمل.

ما الذي يبقى؟

في النهاية، يبدو أنّ ما يتبقى من التجربة ليس الحدث ولا السرد ولا الخوف نفسه،
بل طريقة استمرارنا في حملها. 

تبقى اللمعات الصغيرة، الأصوات المقطوعة، اللحظات الناقصة.. وتبقى الأسئلة التي لا نجد لها جواباً، الأسئلة التي تصبح جزءاً من هويتنا أكثر ممّا تصبح جزءاً من الماضي.
ربما يكون هذا هو معنى الذاكرة: أن يبقى شيء خافت يقاوم الانطفاء داخلنا، ونظلّ نحن نقاوم معه، حتى لو كان الضوء ضعيفاً، حتى لو كان يشبه ليداً قديماً ما يزال، رغم كلّ شيء، يمنع الليل من أن يصبح ليلاً كاملاً.

 

 

شارك

مقالات ذات صلة