فكر
يشغل مفهوم طرح الحل أمراً مركزياً في النقاشات المعاصرة حول المشاكل المتعلقة بالشأن العام؛ إذ يُفترض ضمنياً أن الانتقال من تشخيص المشكلة إلى اقتراح الحل يمثل خطوة تلقائية نحو التحسّن، غير أن تتبّع مسار الكثير من حلول التدخّلات والسياسات يبيّن أنّ الخلل لا يكمن دائماً في غياب الحلول، بل في اعتماد حلول صيغت على مستوى الفكرة ولم تُختبر على مستوى البنية والمنهج والتطبيق، فأسهمت في مضاعفة الإشكال بدل احتوائه.
تنبع الإشكالية من التعامل مع الحل بوصفه إجابة جاهزة أو صياغة لغوية مُحكَمة، لا بوصفه بناءً معرفياً مركّباً يقوم على فرضيات محدّدة، وقابلية للاختبار، ومعايير واضحة للتقييم والمراجعة. وعند غياب هذه المقومات، يتحوّل الحل المقترح إلى احتمال مخاطرة أكثر منه أداة معالجة؛ إذ قد يفتح مسارات غير محسوبة، ويستدعي أبعاداً لم تكن حاضرة في لحظة التشخيص الأولي.
انطلاقاً من ذلك، يسعى هذا المقال إلى مقاربة أكثر منهجية لفلسفة طرح الحلول، من خلال تحليل إشكالية الحلول غير المختبَرة، وتحديد الشروط المعرفية التي تجعل من الحل إطاراً صالحاً للتطبيق، ومناقشة أثر تعقّد المشكلات على طبيعة المقاربات الممكنة، وصولاً إلى إبراز البعد الأخلاقي المرتبط بمسؤولية تقديم أيّ حلّ في سياقات واقعية متعددة الأبعاد.
إشكاليّة الحلول غير المختبَرة.
تظهر في كثير من النقاشات العامّة والمؤسسية نزعة واضحة إلى الانتقال السريع من تشخيص المشكلة إلى إعلان حل يُعامل بوصفه خطوة تلقائية نحو التحسّن، إلا أنّ هذا الانتقال غالباً ما يتمّ من دون المرور بمرحلةٍ أساسية هي اختبار صلاحية الحل، ومدى توافقه مع معطيات الواقع وحدوده. هنا تتشكّل الإشكالية الجوهرية وهي تبني حلول على مستوى الخطاب، وتُعتمَد قبل أن تُختبَر على مستوى الممارسة.
يمكن توصيف الحلول غير المختبَرة بأنّها مقترحات تُبنى على فرضيات ضمنية أو انطباعات عامة، من دون أن تستند إلى بيانات كافية أو تحليل منهجي للسياق. في هذه الحالة، يصبح الحل أقرب إلى افتراض نظري أو أمنية عقلانية، لا إلى أداةٍ عملية قابلة للتطبيق. وقد يحقّق هذا النمط من الحلول حضوراً قوياً في المجال الإعلامي أو في الخطاب الجماهيري، لكنّه يظلّ هشّاً أمام تعقيدات التنفيذ، ومتطلبات الموارد، وبُنى المصالح القائمة.
إضافة لذلك الفجوة بين نجاح الحل على الورق وتعثره عند التطبيق ليست تفصيلاً ثانوياً، بل مؤشراً على غياب منظور بنيوي في التعامل مع المشكلة. فالحل غير المختبَر لا يكتفي بعدم تحقيق النتائج المرجوّة، بل قد يُنتج آثاراً جانبية غير محسوبة تتمثل في إرباكاً مؤسسياً، وإهداراً للموارد، وفقداناً للثقة في إمكان الإصلاح، أو حتى توليد مشكلات جديدة أكثر تركيباً من المشكلة الأصلية.
بالتالي، لا تمثّل الحلول غير المختبَرة محاولة ناقصة فحسب، بل قد تتحوّل إلى عنصر مفاقمة للوضع القائم، عندما تُعتَمد بديلاً عن مسار تدريجي يقوم على الفحص والتجريب والمراجعة المستمرة.
فلسفة طرح الحلول كبنية معرفيّة.
تتعامل كثير من المقاربات مع الحل بوصفه جملة مُحكَمة أو إجراءً مباشراً يمكن إعلانه فور الانتهاء من توصيف المشكلة. غير أنّ فلسفة الحل يجب أن تكون في سياقٍ أكثر منهجية، عبر بنية معرفية مركّبة، لا تكتسب معناها من الصياغة اللغوية، بل من الأسس التي تُبنى عليها وطريقة اختبارها في الواقع. فالحل الجاد ليس استجابة لغوية لمشكلة، بل نتيجة مسار تفكير منظّم ينتقل من الفهم إلى البناء ثم إلى التحقق.
تتأسس بنية فلسلفة الحل على مجموعة من الفرضيات الصريحة أو الضمنية التي تحدّد كيف تُفهَم المشكلة، وما الذي يعدّ سبباً مباشراً أو غير مباشر لها، وأيّ مسارٍ يُفترض أن يؤدي إلى تغييرها. لذلك يصبح التحقق من الفرضيات خطوة أولى لا بدّ منها؛ إذ يسمح هذا التحقق بكشف التعميمات المتسرّعة، والافتراضات غير المسنودة، والفجوات المعرفية التي قد تجعل الحل قائماً على أسس مهزوزة.
العنصر الثاني في هذه الفلسفة يتمثّل في اختبار قابلية التطبيق في بيئات قريبة من الواقع الفعلي، بعيداً عن الافتراضات النظرية المحضة. فالانتقال من الورق إلى الممارسة يكشف قيود الموارد، وحدود الزمن، وتداخل المصالح، وتعقّد الإجراءات، وهي عناصر لا تظهر عادةً في التصوّر الأولي للحل.
أمّا العنصر الثالث فهو إدراك الأبعاد المخفيّة التي لا تكون حاضرة في الرؤية الأحادية، مثل الأبعاد القانونية، والمؤسسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها من العوامل التي يمكن أن تعيد تشكيل الحل عند الاحتكاك بها. من دون هذا الوعي، يبقى الحل أسير زاوية نظر ضيّقة، مهما بدا منسجماً على المستوى النظري.
وبهذا الشكل، تتحوّل فلسفة طرح الحلول إلى إطار منهجي يحكم عملية التفكير ذاتها، ويمنع اختزال الحل في مجرّد اقتراح سريع، عبر ربطه ببنية معرفية واضحة، قابلة للفحص والمساءلة والتعديل.
تعقّد المشكلات وخطورة الحلول السهلة ودور المختصّين.
تتّسم المشكلات المرتبطة بالسياسات العامة، والحوكمة المؤسسية، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية بدرجة عالية من التعقيد؛ فهي لا تنشأ عادةً من سبب منفرد يمكن عزله ومعالجته مباشرة، بل من تداخل منظومات قانونية، ومؤسسية، وثقافية، واقتصادية، وغيرها. هذا التعقيد يجعل أيّ مقاربة تعتمد على “حل واحد مباشر” عرضةً للقصور، لأنّها تتجاهل الطابع الشبكي للعوامل المؤثّرة في المشكلة.
وهنا تبرز خطورة ما يمكن تسميته بـ”الحلول السهلة”؛ أيّ تلك المقاربات التي تتعامل مع الظاهرة المعقّدة كما لو كانت معطى بسيطاً يمكن تعديله بإجراءٍ واحد أو شعار عام. مثل هذه الحلول قد تحقّق حضوراً قوياً في الخطاب الإعلامي، أو تمنح انطباعاً بوجود تحرّك سريع، لكنّها على المستوى العملي قد تزعزع توازنات قائمة، أو تصطدم بحدود قانونية وتنظيمية، أو تولّد تكاليف غير محسوبة على المدى المتوسط والبعيد. وعند هذه النقطة، يتحوّل الحل إلى مصدر لمشكلة جديدة، أو إلى عامل مضاعِف للإشكال الأصلي.
هنا يصبح دور المختصّين مركزياً؛ فالتعامل مع المشكلات المركّبة يتطلّب قدرة على قراءة الأبعاد غير المرئية للظاهرة، مثل البنية التنظيمية للمؤسسات، وآليات اتخاذ القرار، والالتزامات القانونية، وإكراهات التمويل، والبنى الاجتماعية السائدة. المختصّ داخل الحقل المهني يمتلك أدوات تحليلية وخبرة تراكمية تمكّنه من تقييم مدى توافق الحل المقترح مع هذه الأبعاد، ورصد العوائق المحتملة قبل ظهورها في مرحلة التطبيق.
إنّ إدماج هذا البعد التخصّصي في عملية تصميم الحلول لا يُعدّ إضافة شكلية، بل يمثل ضمانة أساسية للحدّ من آثار الحلول السريعة، عبر تحويل المقاربة من استجابة انطباعية إلى مسار تحليلي يعتمد على المعرفة المتخصّصة وفهم تعقيدات السياق.
منهجية اختبار الحلول والمسؤوليّة الأخلاقيّة.
يتطلّب التعامل الجاد مع الحلول الانتقال من مستوى الاقتراح النظري إلى مستوى المنهج الإجرائي الذي يضبط مراحل الاختبار والتقييم. في هذا الإطار، يمكن النظر إلى اختبار الحلول بوصفه مساراً متدرّجاً يمرّ بثلاث حلقات مترابطة وهي جمع المعطيات، وبناء الفرضيات واختبارها، ثم مراجعة النتائج وإعادة الضبط.
تبدأ المنهجيّة بالمرحلة الأولى وهي جمع وتحليل البيانات المرتبطة بالمشكلة وسياقها؛ إذ يسمح هذا المستوى بتكوين صورة أقرب إلى الواقع، بعيداً عن الانطباعات الجزئية أو الشهادات الفردية، فكلما كانت قاعدة البيانات أوسع وأدقّ، أصبح تقييم أثر الحل أكثر موضوعية، وتقلّص هامش الاعتماد على التقدير الشخصي. ويتبع ذلك المرحلة الثانية تحديد الفرضيات واختبارها؛ حيث يُصاغ الحل في صورة افتراضات قابلة للفحص، إذا طُبّق هذا الإجراء في هذا السياق، يُتوقَّع أن ينتج عنه هذا الأثر، لكن تُختبَر هذه الفرضيات على نطاق محدود أو في بيئات تجريبية، بما يتيح رصد النتائج الأولية وتحديد الفجوات بين المتوقَّع والمتحقِّق فعلياً.
أمّا المرحلة الثالثة فتتمثّل في مراجعة النتائج وتعديل الحل في ضوء ما يكشفه التطبيق من معطيات جديدة؛ فالحل الذي يُظهر آثاراً جانبية مرتفعة، أو يبرهن على محدودية تأثيره، يحتاج إلى إعادة ضبط أو إعادة صياغة، لا إلى تعميم متسرّع.
ومن المهم أن نركّز على أنّ هذا المسار يرتبط ببعد أخلاقي واضح؛ إذ إنّ اقتراح الحلول في قضايا عامّة أو مؤسسية لا يقتصر على بعد معرفي، بل يحمل تبعات عملية تتحمّلها جهات وأفراد قد لا يملكون القدرة على اختيار البدائل. ومن ثمّ تُعدّ مساءلة الحل عبر أسئلة من قبيل، هل يمكن قياس أثره؟ هل يمكن اختباره؟ وهل يمكن تطبيقه في سياق واقعي متعدد الأبعاد؟ جزءاً من مسؤولية علمية وأخلاقية لا تنفصل عن شرعية أيّ حل يُقدَّم بوصفه أداة لمعالجة مشكلة قائمة.
بشكلٍ عام، لا تكمن الإشكالية في قلّة الحلول المتداولة بقدر ما تكمن في طبيعة هذه الحلول وكيفية بنائها واعتمادها، فالحل الذي لا يقوم على بنية معرفية واضحة، ولا يمرّ بمسار من التحقق والتجريب والتقييم، يظلّ احتمال مخاطرة قد يفاقم المشكلة بدل معالجتها، مهما بدت صياغته منسجمة أو جذّابة في مستوى الخطاب. وتُظهر قراءة المشكلات المركّبة وتشابك أبعادها أنّ الاعتماد على “الحلول السهلة” يختزل التعقيد القائم، ويغفل العوامل القانونية والمؤسسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيد تشكيل النتائج عند التطبيق. لذلك يصبح استحضار المعرفة المتخصصّة، والالتزام بمنهجية اختبار مرحلية، وتقدير الآثار الجانبية قبل تعميم أيّ إجراء، عناصر أساسية في أيّ مقاربة مسؤولة للحل. وانطلاقاً من ذلك، يغدو طرح الحل أقرب إلى التزام معرفي وأخلاقي متكامل، لا يكتفي بحسن النية أو سلامة المقصد، بل يربط شرعية الحل بصلابة منهجه وقابليته للقياس والاختبار والتطبيق في سياقات واقعية متعددة الأبعاد. وبهذا المعنى، لا يُفهَم الحل الجاد بوصفه استجابة لغوية سريعة، بل نتيجة عملية تحقق مستمرة تسعى إلى تقليل المخاطر وتعظيم القدرة على إحداث تغيير فعلي ومستدام.




