مقالات سوريا
لم تكن رحلتي من سوريا إلى قطر عبارة عن انتقالٍ قصير بين بلدين تفصل بينهما تفاصيل الجغرافيا، بل كانت في حقيقة المطاف عبوراً مختلفاً.. إنسانياً إلى فضاءٍ متغيّر ومزدهر بالمعاني والانطباعات الإنسانية الكبيرة، فمع اللحظات الأولى لوصولي إلى مطار حمد الدولي، استنتجت أنّ ما ينتظرنا في قطر وبشكلٍ واضح ليس مجرّد برنامج إعلامي تقليدي في الزيارات الرسميّة، بل تجربة متداخلة بين الحفاوة الرسمية ودفء المجتمع وروحه التي تشبه الاحتضان أكثر ممّا تشبه الاستقبال البروتوكولي.
بدا واضحاً أنّ المؤسسة القطرية للإعلام -الداعية- تريد أن ترسم أثرها المباشر في ملامح هذه الرحلة، فكلّ تفصيلةٍ في التنظيم، وكلّ يدٍ امتدت بالمساعدة، وكلّ ابتسامةٍ تلقيناها منذ اللحظة الأولى، كانت تشير إلى أنّ الجهة الداعية لا تتعامل مع ضيوفها من موقع “الواجب”، بل من موقع الإيمان الحقيقي بدور الإعلام والثقافة في بناء جسور بين الشعوب، ولم يكن ذلك غريباً في بلدٍ استطاع خلال سنوات قليلة أن يغيّر وجهه تماماً، لأنّ روحه الداخلية تغيّرت أولاً.
لكن ما كان يلفتني على نحوٍ خاص، وأنا أتنقّل بين المؤسسات والأماكن والوجوه، هو أنّ هذه الحفاوة لم تكن صفة عابرة، ولا سلوكاً مجاملاً لمناسبة معينة، بل كانت جزءاً من بنية المجتمع، من طريقة القطريين في النظر إلى أنفسهم وإلى الآخرين، وخصوصاً السوريين.
وهذه الروح لا تُزرع صدفةً ولا تتشكّل من تلقاء نفسها، إنّها انعكاس مباشر لنهجٍ اختارته القيادة، ونهج جسّده الأمير تميم بن حمد آل ثاني، الذي استطاع أن يجعل من الكرامة قيمةً مركزية في السياسة الداخلية والخارجية لبلاده، وأن يغرس في نفوس شعبه إيماناً بأنّ الوقوف إلى جانب المظلومين ليس خياراً سياسياً، بل واجباً أخلاقياً.
ولذلك لم أشعر، طوال أيام الزيارة، أنّني غريب عن المكان، لذا كان المشهد العام يقول إنّ هذه الأرض تعلّمت أن تكون كبيرة بحجم إيمانها بمبادئها، وإنّ الحفاوة التي نشعر بها نحن السوريين ليست مجرّد تعاطف، بل امتدادٌ طبيعي لسياسة اختارت أن تقف إلى جانب شعبٍ طُعن في قلبه وما يزال يبحث عن نافذة ضوء.
المشاهدات الإعلامية.
اليوم الأول في زيارتنا للمؤسسات الإعلاميّة القطرية، لم يكن جولة داخل استوديوهات حديثة وقاعات بث مزودة بأحدث التقنيات والأدوات فقط، بل كان أشبه بقراءة سريعة لروح الإعلام الرائد الذي يريد أن يقول شيئاً عن بلده قبل أن يقول شيئاً للعالم، ففي تلفزيون قطر، بدا لي واضحاً أنّ البنية التحتية المتطورة ليست الغاية بحد ذاتها، بل وسيلة لصناعة خطاب وطني متماسك، يُدار بقدر كبير من الاحتراف والهدوء، ويوازن بين خصوصية الهوية والانفتاح على المعايير المهنية العالمية.
فالمكان لم يكن مبهِراً من حيث التكنولوجيا فقط، بل من حيث الانسجام بين العاملين والزوار، وكأنّ الجميع ينتمي إلى منظومةٍ واحدة تعمل بثقةٍ ووعي.
أمّا في إذاعة قطر والإذاعات الأجنبية العاملة ضمن المنظومة ذاتها، لفتني فيها حضور التنوع، لغات مختلفة، وجمهور متعدد، وبرامج تخاطب شرائح متباينة دون أن تفقد الصبغة القطرية التي تمنح الهوية معناها، بدا لي أنّ هذا التنوع ليس مجرّد استجابةٍ لسوق إعلامية مزدهرة، بل امتداد لرؤية دولة تريد أن تكون جزءاً من العالم دون أن تذوب فيه.
وكلما تعمقت في تفاصيل هذه المؤسسات، ازداد يقيني أنّ الإعلام في قطر ليس قطاعاً منفصلاً عن مشروع الدولة الأوسع، بل جزءاً عضوياً من نهضة تسعى إلى أن تُرى وتُسمَع، كان واضحاً أنّ ما نشاهده في العلن هو انعكاس لبيئة عمل تؤمن بالمهنية وتستثمر فيها، وتتفهم أنّ الصورة التي تُصدرها عن نفسها ليست ترفاً، بل عنصراً أساسياً في بناء مكانتها الإقليمية والدولية.
تجربة المكتبة والمتاحف.
نقطة تحوّل مفصلية في فهمي لطبيعة النهضة التي تعيشها دولة قطر الشقيقة خلال زيارتي لمكتبة قطر الوطنية، فمن يدخل هذا الصرح لا يواجه مجرد مبنى فخم أو رفوفاً تمتد إلى ما لا نهاية، بل يواجه تصوراً كاملاً عن المعرفة كجزءٍ من هوية الدولة، لا كخدمة تكميلية تُضاف إلى صورتها الحديثة.
في الداخل، بدت المكتبة أشبه بمساحة عامة للبحث والتفكير والتعلّم، أكثر من كونها مؤسسة ثقافية جامدة، كلّ شيءٍ فيها ــ من الهندسة المعمارية إلى التكنولوجيا المستخدمة ــ يقول إنّ المعرفة هنا ليست امتيازاً لنخبة، بل حقاً متاحاً للجميع، في بلدٍ يؤمن أنّ الاستثمار في العقل لا يقل أهمية عن الاستثمار في الحجر.
أمّا المتاحف، سواء المتحف الوطني أو المتحف الإسلامي، فقد كشفت لي عن وجه آخر لقطر.. بلد يربط نفسه بتاريخ طويل دون أن يسمح لهذا التاريخ أن يقيّده.
برؤيةٍ معمارية جريئة وسردية منظمة، كان كلّ جناحٍ يقدّم قصة، وكلّ قطعةٍ تحمل تفسيراً، وكأنّ الدولة تريد أن تطمئن الزائر بأنّ الحداثة لم تأتِ على حساب الجذور، بل جاءت لتعيد قراءتها وتقدّمها للعالم.
في المتحف الوطني تحديداً، بدا أنّ السردية القطرية معروضة بوعيٍ جديد، لا تمجيداً ولا تبريراً، بل محاولة لفهم الذات عبر العصور، وكيف انتقلت البلاد من صحراء تعتمد على الغوص بحثاً عن اللؤلؤ إلى دولة تُصدّر الطاقة والمعرفة معاً.
خرجت من تلك الأماكن بإحساسٍ أنّ النهضة القطرية ليست مشروع أبراج وطرقات، بل مشروع رؤية، أن يبني الإنسان مكاناً يعرف من أين جاء وإلى أين يريد أن يصل.
التطور العمراني والنهضة القطرية.
كلّما تقدّمت بنا السيارة في شوارع الدوحة، ازداد يقيني أنّ ما يجري في قطر ليس مجرّد توسّع عمراني متسارع، بل مشروع دولة تعرف تماماً ماذا تريد أن تكون، فالأبراج التي ترتفع في الأفق، والواجهات البحرية المصممة بعناية، والبنية التحتية التي تعمل بانتظامٍ لافت، ليست مظاهر تجميلية لمدينةٍ تبحث عن مكانٍ في خارطة العالم، بل انعكاس لإرادة سياسية اختارت أن تُترجم رؤيتها إلى واقع ملموس.
لكن اللافت في التجربة القطرية أنّ هذا العمران لا يظهر كجسمٍ غريب مفصول عن الناس، هناك محاولة واضحة لخلق توازن بين الحداثة والهوية، بين زجاج الأبراج ودفء الحارات التقليدية، بين ما تفرضه العولمة وما تختاره الدولة لنفسها.
شعرت أنّ كلّ مبنى جديد، وكلّ شارعٍ مُعاد تخطيطه، وكلّ مساحة خضراء تمّ تخصيصها، ليست قراراً هندسياً فقط، بل رسالة مفادها.. نحن نبني دولة قابلة للحياة، لا مجرّد مدينة قابلة للإبهار.
هذا التوازن بين الطموح العمراني والرؤية الاجتماعية هو ما يمنح النهضة القطرية معناها، إنّها نهضة لا تلاحق الزمن، بل تشكّله، لا تنسخ نماذج عالمية، بل تصنع نموذجها الخاص، وفي هذا يكمن الفرق بين دولة تبني حجارة، ودولة تبني مستقبلاً.
البعد السياسي والإنساني في موقف قطر من السوريين.
الحقيقة في أنّ كلّ سوري يزور قطر الشقيقة، لا يستطيع التعامل معها فقط من خلال الحفاوة التي يتلقاها بوصفها لفتة عابرة، لأنّ العلاقة في جوهرها بين القطريين و السوريين تجاوزت الحفاوة لأنّها تشكّلت في سياق سياسي وأخلاقي عميق، خصوصاً في حديثنا عن الموقف القطري من الثورة السوريّة التي تعتبر أحد أهمّ المواقف وضوحاً واستمراراً.
فمنذ الشرارة الأولى لصيحات الحرية في سوريا، لم تقف الدوحة على الحياد بل اختارت طريق الكرامة بالوقوف إلى جانب السوريين في حقّهم بالحرية والكرامة، ليس كموقفٍ سياسي نفعي بل التزام أخلاقي ينسجم مع رؤية الدولة لدورها العربي والإنساني، وكان هذا الموقف، رغم كلفته، ثابتاً لا يتقلّب بين تقلبات الإقليم، ولا يخضع لحسابات ضيقة.
فالبعد السياسي وحده لا يفسّر دفء الاستقبال الذي يشعر به السوريين هنا، لأنّ البعد الإنساني حاضر في كلّ زاوية، إذ يظهر في الطريقة التي يتعامل فيها المجتمع القطري مع السوريين من خلال الاحترام، القرب والشعور بأنّ المأساة السورية ليست شأناً بعيداً.
هذه الروح لم تولد من فراغ، إنّها امتداد لخطاب قيمي صاغته القيادة القطرية، وفي مقدمتها الأمير تميم بن حمد آل ثاني، الذي حرص على أن تبقى مبادئ العدالة والوقوف مع المظلومين جزءاً من الهوية السياسية لبلاده.
ولذلك، حين يتحرك السوري في شوارع الدوحة، يشعر أنّ العلاقة ليست علاقة دولة بضيوفها، بل علاقة إنسان بإنسان، ومظلوم بمن وقف معه حين كان العالم يشيح بوجهه.
في نهاية الرحلة، أدركت أنّ قطر ليست مكاناً يُزار بقدر ما هي تجربة تُعاش وتُفهم، وما بين حفاوة الناس ورؤية الدولة، بدا واضحاً أنّ النهضة الحقيقية تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه.




