فكر

بين صوت الشعب وصِراع الحياة

نوفمبر 22, 2025

بين صوت الشعب وصِراع الحياة

هبة الله بدر

لم تَكن الثورات عبر التاريخ حدثاً معزولاً عن المحيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بل خرجت من رحم الواقع الذي عايشتهُ وعاشت فيه، بحثاً عن طريقةٍ تكسر قيود الاستبداد وتفتح أُفقاً جديدة لحياةٍ كريمة لا ظُلم فيها ولا عذاب حيث يُصان الإنسان وتُحترم الحقوق.

ومن أبرز الأمثلة عن الثورات التي شكّلت علامة فارقة في القرون الماضية، تلك التي شهدتها أوروبا، والتي ألهمت الشعوب بضرورة التحرّر وفك قيد العزلة.

بذور الثورة الفرنسية.

انطلقت الثورة الفرنسية نتيجة سنوات من القهر والحرمان، عاش فيها الفرنسيون وضعاً اقتصادياً ومعيشياً سيئاً للغاية أثقلت كاهل الفقراء، في ظلّ سُلطةٍ استبدادية تتحكم بمفاصل الحياة وتفرض قوانينها الصارمة، وتستغل خيرات البلاد وتُهيمن عليها لتضمن بقاءها واستمرارها لِتَظل غارقة في الثراء والرفاهية، بينما الشعب تلتهمهُ النيران، نار الفقر، والقهر، والجوع. هذا التراكم الطويل من سنوات العذاب أدى بالشعب لأن ينفجر رافعاً مطالبه بشعارات خلّدها التاريخ مثل الحرية والمساواة. الثورة الفرنسية غيّرت وجه أوروبا، وكانت الشرارة التي اجتاحت على إثرها أوروبا موجة ثوريّة توّحدت فيها المطالب رغم اختلاف أسبابها لتندرج ضمن مطلب وشعار واحد، الحُريّة.

استندت الثورة الفرنسية في بادئ الأمر على أفكار عصر التنوير، التي سبقتها ومهدت الطريق لانطلاقها، بإيمانٍ كامل أنّ الإنسان وُلد حراً وليس تابعاً أو خائفاً. ومع انتشار أفكار التنوير التي دعت إلى الحرية والمساواة وإحقاق العدل، شكّلت البذرة الأولى التي نَمت في عقول الناس قبل الشارع.

بين الفوضى وبدايات الاستقرار.

بعد اقتحام سجن الباستيل، دخلت الثورة مرحلة لحقها الكثير من الفوضى والصراع، فشهدت البلاد أزمات كثيرة، وأصبحت باريس مسرحاً لصراع تيارات سياسية، لكنّها رغم الفوضى القاسية، قادت في النهاية إلى إعلان حقوق الإنسان وإرساء أُسس الجمهورية الأولى، رغم كلّ العنف والتشرذم في الواقع السياسي والاجتماعي، إلّا أنّ توّحد الثوار في نسقٍ وصفٍ واحد أدى في نهاية الأمر إلى تحقيق أهداف الثورة وإعلان النصر والحريّة، لتكون بذلك الثورة الفرنسية رمزاً عالمياً ونموذجاً يُحتذى به لشعوب استطاعت تغيير واقعها مهما بدا النظام صلباً وقويّاً.

صدى آخر لصرخة الحرية.. الثورة السورية.

وفي وطنٍ بعيد جغرافياً إلا أنّه قريب إنسانياً، خرج السوريون عام 2011، بعد عقودٍ من الكبت تحت قبضة حافظ وخليفته بشار، يحملون الدوافع والأهداف ذاتها من رحم واقع متشابه، حيث غابت الحريات، وتلاشت الحقوق وزادت القبضة الأمنية من قبل نظام شمولي استبدادي احتكر ثروات الوطن.

فالنظام الأسدي يُشابه إلى حدٍّ كبير نظام لويس السادس عشر باتباعهما سياسات ظالمة رعناء بحق الشعب، ليُصبح المواطن مقهوراً يُعاني الفساد وانسداد الآفاق حاملاً إرثاً سياسياً لا شأن له فيه.

ردّ السلطة العنيف فتح الباب لمسار معقد وصعب، حيث كان الرد القاسي بالدم والنار والحديد من قبل النظام الذي حاول جذب فئات من داخل المجتمع السوري وَضمها إلى صفوفه، محوّلاً بذلك الواقع إلى صراع، من مسار شعبي سلمي، إلى مواجهة مباشرة مسلحة مع النظام المتوحّش، تحوّل المشهد إلى ملايين المهجرين في الداخل والخارج، ومعتقلين لم يبقَ منهم سوى بطاقات شخصية تحملُ أسماءهم، والكثير من المفقودين الذين لم يُعرف مصيرهم.

فضلاً عن تحالفات خارجية امتدت بأذرعها للداخل السوري لتحقيق مصالحها، ممّا زاد سوء وتردي الوضع أمام المواطن.

بين التجربتين.. ما الدروس المستفادة؟

المقارنة لا تعني بالضرورة التشابه والتطابق الكامل، إنّما ضرورة استلهام قدرة الثورة على تخطي وتجاوز حالة الفوضى وإنهاء حالة الصراع والانقسام التي لحقت الثورة. إنَّ التشابه يكمن في الإصرار على التغيير، والمطالبة بالحقوق حتى الرَمق الأخير.

لقد استغرق الفرنسيون سنوات من الدم والفوضى قبل أن تستقر بلادهم، وما يجعل ثورتهم مثالاً تاريخياً معقداً هو أنّها لم تتجه نحو الاستقرار مباشرةً، بل دخولها حالة الفوضى الحادّة هو جزء أساسي من مسارها، وهذا وحده يُذكرنا أنّ الثورات ليست طريقاً قصيراً، بل مساراً شاقّاً مليئاً بالتحديات.

بذلك، أمام سوريا طريق طويل حتى يستقيم أمرها وتنهض، فالتحديات ضخمة ومتعددة ورغم الجراح التي صنعتها الفوضى ما زال الأمل لامعاً في عيون الشعب المُنهك، والأمل كبير.

شارك

مقالات ذات صلة