مدونات

مناظرة الشعب السوري.. كسر القيد وبناء الوعي

نوفمبر 18, 2025

مناظرة الشعب السوري.. كسر القيد وبناء الوعي

حمزة السيوفي 

 

كثيراً ما يتناهى إلى أسماعنا مصطلح “المناظرة”، والذي قد ينحصر بالنسبة للعديد منا بشكله المعاصر الرائج في المحافل السياسية أو الطلابية، بمشهدٍ كلاسيكي لقاعات مغلقة تعجُّ بمتحدثين ممّن يرتدون البدل الرسمية ويعتلون المنابر ويخوضون في الحجاج حول قضيةٍ جدلية ما، إلّا أنّ في مفهوم “المناظرة” ما هو أوسع وأشمل من ذلك بكثير، فالمناظرة في حياتنا قد تتعدى إلى مجابهةٍ صريحة بين الحقّ والباطل، وصدام بين أصوات الأحرار وعنف الطغاة.

 

وقد خاض الشعب السوري في ثورته إحدى أكثر المناظرات رمزية في تاريخه، فبين كتابات الأطفال على الجدران وظلم جلادهم كانت مناظرة، وبين حناجر شباب حمص التي صدحت تنادي بالحرية والكرامة في ساحة الساعة والرصاص المنهمر عليهم كالمطر مناظرة، وبين كلّ نفسٍ أبية عصية على الطغيان وآلة القتل الممنهج للنظام البائد مناظرة.. مناظراتٌ لم تكن متكافئة الأطراف ولا متوازنة القوى، إلا أنّ في كلّ منها إقامةٌ للحجة، وثبات على الموقف، وإظهارٌ للحق.

 

فالمناظرة كما أراها، ليست مجرّد فن خطابي أو ممارسة أكاديمية، بل هي سلاح الوعي الذي يتملّكه الإنسان بحسه الناقد وفكره المستنير وصوته الصادح في سبيل إحقاق الحق ومجابهة الظلم والطغيان. والمناظرة بهذا المعنى ليست ترفاً فكرياً، بل هي مقاومة فكرية ضد الجهل والخضوع، ولهذا لم تكن معركة السوريين مع النظام البائد مواجهة سلاح فحسب، بل كانت حرباً على الرواية، حرباً بين من يحتكر سردية الحقيقة ومن يطالب بحقّ السؤال. كلّ شعار كُتب على جدار، كلّ هتاف دوّى في الشوارع والساحات، كان في جوهره حجة تُقدَّم أمام العالم، بلغةٍ بسيطة، ولكن بمنطق لا يُدحض: “الحرية حقّ، والكرامة ليست امتيازاً”.

 

لقد أثبتت هذه المناظرات الشعبية أنّ الوعي الجمعي ليس نتاج النخب وحدها، بل يولد من رحم المعاناة حين يتلاقى الإدراك الشعبي مع الإيمان بعدالة القضية. فالشاب الذي يرفع لافتة في وجه الرصاص، والطفل الذي يكتب كلمة “حرية” على جدار مدرسته، يمارس شكلاً من أشكال التفكير النقدي الأصيل، الذي لا يُدرّس في قاعات الجامعات، بل يُصاغ في ميادين الصبر. هذا الوعي الفطري، المجبول على الكرامة، جعل من السوريين فلاسفة الميدان ومفكري الثورة، يحلّلون واقعهم، وينقدون استبدادهم، ويرسمون بأيديهم ملامح وطنٍ يفكر لا يُلقّن.

 

وإذا كانت المناظرة في أصلها تقوم على الاستماع والإصغاء قبل الرد، فإنّ ما جرى في سوريا كان العكس تماماً؛ إذ تحوّل الصمت الرسمي إلى جدارٍ يحجب أيّ نقاش، وبدل أن تكون المناظرة جسراً للفهم أصبحت ذريعةً للقمع. ومع ذلك، لم يتوقف الشعب عن المطالبة بحقوقه، لأنّ السكوت في ذاته كان موتاً، وهكذا تحوّلت الكلمات إلى وسيلةٍ للبقاء، وإلى شكلٍ من أشكال المقاومة التي لا تُقهر. فالسوري الذي قاتل، وكتب، وصوّر، وغنّى، وصرخ، كان في كلّ مرة يدخل مناظرة جديدة مع الخوف، مع الزمن، ومع نفسه، ليقول: أنا موجود، وفكرتي باقية.

 

ويمكن القول إنّ ما ميّز التجربة السورية عن غيرها هو أنّ المناظرة لم تبقَ في حيز المواجهة مع النظام فقط، بل تجاوزته لتصبح حالةً مجتمعية واسعة؛ مناظرة داخل الأسر حول معنى الخلاص، وفي المدارس حول مفهوم الوطن، وفي المنافي حول الهوية والانتماء. لقد تحوّل كل سوري إلى مناظرٍ بطريقة أو بأخرى، يناقش مصيره، ويفكر في شكل الدولة التي يريدها، وفي العدالة التي ينشدها.

 

إنّ أهمية المناظرة اليوم تكمن في كونها تبني مجتمعا قادراً على التفكير لا الترديد، ومواطنًا يسأل لا يكتفي بالتلقين. هي مدرسة الحرية الأولى، حيث يتعلم الإنسان كيف يختلف دون أن يعادي، وكيف يدافع دون أن يُقصي، وكيف يحاور دون أن يُهين. فالمناظرة تعلّمنا أن نسأل، ومن يسأل يفكّر، ومن يفكر يَعي، ومن يعي يجادل لأجل الحقيقة ومنع احتكارها. ولهذا فإنّ إحياء ثقافة المناظرة اليوم هو واجب وطني وأخلاقي، لأنّها السبيل الأسمى لبناء وعي جماعي يحصّن الأوطان من الاستبداد الفكري والسياسي. فالمناظرة ليست ترفاً نخبوياً، بل هي حقّ الشعوب بأن تفكر بصوت عالٍ. وفي هذا الأفق تعمل مؤسسة مناظرات سوريا على تحويل هذا المعنى إلى ممارسةٍ يومية؛ بتدريب متناظرين مدرّبين، وإطلاق بطولات ومنصّات حوار آمنة للشباب، بما يعمّق ثقافة السؤال والحجّة ويُعيد الاعتبار للكلمة أداةً للبناء والتغيير.

 

ولعلّ التحدّي اليوم هو تحويل المناظرة من ذاكرة صراعٍ إلى لغة بناء؛ أن نُخرجها من لحظة الانفعال إلى فضاءٍ مؤسّسيّ يُدار فيه الخلاف بميزان الحجة والمصلحة العامة. المناظرة التي حمت كرامتنا في ساعات الشدّة يمكن أن تصبح اليوم رافعةً للتوافق الوطني وصناعة القرار، تضبط أعرافاً واضحة للحديث والمسؤولية عبر برامج تدريب في المدارس والجامعات، ومجالس نقاشٍ محلية تُصغي إلى الناس ثمّ تُترجم الاقتراحات إلى سياسات قابلة للتنفيذ. ليست الغاية تسوية الأصوات، بل تنظيمها لتلتقي على الحقّ الممكن بمعطياتٍ شفافة، ومساحات آمنة يُصان فيها الاختلاف بوصفه مصدر قوة لا بذرة انقسام. هكذا تعود المناظرة إلى دورها الأصيل في بناء جسر بين المواطن والمؤسسة، وكأداةٍ لإعادة بناء الثقة وصياغة مستقبلٍ تُكتب تفاصيله بالعقل والبرهان.

 

لقد خسر السوريون كثيراً في حربهم الطويلة، لكنّهم كسبوا شيئاً لا يُقدّر بثمن: شجاعة الكلمة، وأثبتوا أنّ المناظرة ليست دائماً في قاعة مغلقة وحوارات منظمة، بل قد تكون في شارعٍ مهدّم أو في زنزانةٍ ضيّقة، حين يتمسك الإنسان بحقّه في قول “لا” في وجه “نعم” القسرية. ومن هنا نستطيع أن نقول إنّ الشعب السوري، رغم كلّ ما أصابه، نجح في مناظرته الكبرى. فقد انتصر على الخوف، وانتزع لنفسه مساحة من الحقيقة لا يمكن أن تُطمس، لأنّ المناظرة لا تنتهي إلا حين يتوقف الإنسان عن السؤال، والإنسان السوري ما زال يسأل.

وربما تكون أعظم نتيجة لتلك المناظرة الكبرى أنّ السوريين اليوم باتوا يدركون أنّ الحرية لا تُمنح، بل تُصاغ بالكلمة، وأنّ بناء الوطن يبدأ من بناء العقل. فالسؤال الذي بدأ في الشارع ما زال يتردد في العقول: كيف نعيد تعريف المستقبل؟ وكيف نصوغ روايتنا بأقلامنا نحن؟ هذه هي المناظرة الجديدة، مناظرة ما بعد الألم، حيث لا يُرفع الصوت فقط لمقارعة الطغيان، بل لإعادة بناء الإنسان.

 

شارك

مقالات ذات صلة