مجتمع

منصات التحقق السورية بين الحياد والاتهام

نوفمبر 16, 2025

منصات التحقق السورية بين الحياد والاتهام

في العقد الأخير تحوّلت الحرب من المدفع والدبابة إلى الرقمنة وعصر المعلومات والخوارزميات، لتصبح الحقائقُ تُدار بوسائل التواصل الاجتماعي أكثر مما تُصاغُ في غُرف الأخبار.

وفي سوريا خصوصاً، عايش الناس واقعاً من أزماتٍ وانقسامات خلال سنوات الثورة منذ عام 2011، ما جعل المعلومات المُضللة تتدفّق عبر المنصات الرقميّة بكمياتٍ هائلة من الأخبار والصور والمقاطع حيث استخدمها الأسد البائد وجيشه الإلكتروني لتمييع قضيّة السوريين قبل تحرير سوريا منه.

 وبعض هذه الأخبار استخدمت متعمّدة لأغراض سياسية أو دعائية، وبعضها ناتج عن غياب المصادر الموثوقة وصعوبة التحقق الميداني، وبهذا الواقع من “الفوضى الرقميّة” أتيحت الفرصة لولادة جديدة عُرفت بـ”منصات التحقق الإخباريّة” في استجابة مهنية لحاجة متزايدة إلى المعلومات الدقيقة.

وفي سوريا ظهرت مشاريع عديدة أبرزها “منصّة تأكد”، في محاولة من فريقها لسدّ الفراغ في المشهد الإعلامي السوري، وذلك للتمييز بين الحقيقة والدعاية والخطأ والسردية المقصودة.

لكن، ومع مرور الوقت، لم تعد هذه المنصّات بمنأى عن الأسئلة الصعبة التي تواجه كلّ فاعل إعلامي في بيئة استقطابية: كيف يمكن الحفاظ على الاستقلال المهني في ظلّ التمويل الخارجي؟ وهل يستطيع القائمون على التحقّق البقاء على مسافة واحدة من جميع الأطراف؟

إنّها معركة جديدة على الحقيقة، لا تُخاض في الميدان العسكري بل في فضاء الإنترنت، حيث التضليل لا يُطلق رصاصة، لكنّه قد يغيّر وعيًا أو يكرّس رواية، ومن هنا ينبع السؤال المركزي: إلى أيّ مدى استطاعت هذه المنصّات أن تحافظ على حيادها في زمن ما بعد الحقيقة؟

التحقق ضرورة مهنية.

ارتبطت مهنة الصحافة منذ نشأتها بمجموعةٍ من القواعد المهنية التي تأطّرها أخلاقيات المهنة، وتقوم هذه الأخلاقيات على مبادئ أساسية، أبرزها التحقق من مصدر الخبر، ليس بوصفه حدثًا فحسب، بل من خلال النظر في زوايا معالجته المتعددة، فالمصداقية لا تُقاس بمجرد نشر المعلومة، بل بمدى التزام الوسيلة الإعلامية أو الصحفي بتحري الدقة والموضوعية، مع الحرص على عدم تسييس الخبر أو توجيهه وفق أجندات تتناسب مع رؤى الجهة الناشرة أو الناقل أو الفرد القائم على العمل الإعلامي.

يأتي ذلك من مفهوم التحقق الإخباري العميق “العملية التي يسعى من خلالها الصحفي إلى التثبّت من صحة المعلومات والأخبار قبل نشرها، باستخدام أدوات ومنهجيات مهنية متعددة، بهدف ضمان الدقّة والمصداقية ومكافحة التضليل”.

فعربياً تزاحمت الروايات أكثر من الوقائع، ما جعل منصات التحقق تُولد كأحدِ تجليّات الأزمة الإعلاميّة الجديدة، خصوصاً بانحسارٍ واضحٍ لدور الإعلام التقليدي وتحوّل وسائل التواصل الإعلامي إلى مصدر المعلومة الرئيسي، مما أدى لتراجع المسافة بين الخبر والشائعة، والتوثيق والتأويل.

ففي سوريا اعتبرت منصة تأكد إحدى التجارب التي حاولت تقديم هذا الدور بشكل مؤسسي، منذ انطلاقتها أوائل عام 2016، إذ تعرف نفسها بأنّها منصة مستقلة للتحقق من الأخبار والمعلومات، وانضمّت لاحقاً إلى شبكة التحقق الدوليّة IFCN ما منحها اعترافاً بمعاييرها المهنيّة، وخلال سنوات الثورة والحملات الممنهجة ضدّ الشعب السوري تصدّت المنصّة لعشرات الروايات الزائفة مثل الصور المفبركة لمعارك، أو الأخبار الملفقة عن شخصيات عامة، وساهمت في تصحيح مواد إعلاميّة جرى تداولها على نطاق واسع، لكن منشور منصة تأكد حول قضية نغم عيسى أثار موجة انتقادات واسعة، بعد أن تبين لاحقًا أنّ المعلومات التي نشرتها لم تكن دقيقة، ورغم اعتذار المنصة وتوضيحها، رأى كثيرون أنّ الخطأ زعزع الثقة في التحقق المستقل، وأعاد الجدل حول معايير المهنية والمسؤولية في نشر الأخبار الحساسة.

فالتحقق في جوهره ليس فقط عملاً وفعلاً رقابياً على الآخرين، بل اختبار مستمر لقدرة الإعلام نفسه على الالتزام بالحقيقة دون انحياز أو توظيف سياسي.

التحديات البنيوية.

وسط هذا الكم الكبير من المعلومات السوريّة اليوميّة وقفت عقبات وتحديات كثيرةٌ في وجهِ عمل منصّات التحقق الإخباريّة، فبعضها يرتبط بالتمويل وبعضها الآخر بمحاولات الاستقطاب السياسي وأخرى تتعلق بصعوبة الوصول للمصادر الميدانية، في بلدٍ ما زال يعيش تداعيات حربٍ طويلة وتشظٍ مجتمعي وإعلامي معقّد.

الوسط السوري لم يكن بمنأى عن ذلك، خصوصاً أنّ المشهد الإعلامي ظلّ خاليًا من أي تجربة تحقق منظّمة حتى ظهور “تأكد” أوائل عام 2016، ومنصّة فارق التي ظهرت حديثاً عام 2024، وتلقّت منحة ضمن مشروع “صح” المُشترك مع شبكة مدقّقي المعلومات العرب (AFCN).

 هذه المبادرات تعبّر عن حاجة حقيقية لتقوية الوعي النقدي، لكنّها في الوقت نفسه تواجه بيئة محفوفة بالضغوط.

فتلك العوامل في غالب الأحيان تؤثر ولو بشكلٍ جزئي على آليات الاختيار المتعلقة بالتحقق أو صياغة النتائج النهائيّة بناء على ما تمّ الحصول عليه من معلوماتٍ في مناطق ساخنة كسوريا، وإذا ما تحدثنا عن تحديات متعلقة بأزمة الثقة مع الجمهور، فالكثير من السوريين لا يتعاملون مع منصات التحقق ككيانٍ مهني خالص بل كطرف ضمن خريطة الانقسامات السياسيّة، فكلّ جمهور يتوقع من المنصة أن تقوم على إثبات روايته الخاصة، وأيّ نتيجة غيرها تعتبر انحيازاً، فالضغط الجماهيري على منصات التحقق من خلال التعليقات أو الحملات الرقميّة، قد يؤثر أحياناً على أولويات النشر أو لغة العرض، وقد يكون ذلك بقصد أو بدون قصد.

ومن التحديات أيضاً “العامل التقني”، فالتحقق في بيئةٍ ساخنة وسط جهات متصارعة يصعب فيه الوصول للمصادر الميدانيّة، ما يضطر هذه الجهات للاعتماد على مصادر الأدوات الرقميّة، والتي تكون في غالبها محفوفة بمخاطر أبرزها ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ليزداد التمييز صعوبة بين صور حقيقية ومفبركة، ما يتطلب تدريباً عميقاً ومتقدماً وكلفة مالية كبيرة، لذلك لن تكون متوفرة في غالب الأوقات.

هذه الإشكالات والأزمات ليست محلية بالكامل، فحتى منصّات عالمية مثل PolitiFact وFull Fact تتعرّض لاتهامات بالتحيّز السياسي رغم معاييرها المعلنة، ممّا يثبت أنّ الحياد الكامل في التحقق يظلّ تحديًا عالميًا.

هذه التفاصيل تحتاج قدر من الشفافيّة والمساءلة، من خلال إعلان مصادر التمويل ووضع منهجيات العمل بشكل علني، وإشراك صحفيين مستقلين في المراجعة الدورية، وذلك لأنّ التحقق ليس فقط مهمة تقنيّة بل مسؤولية أخلاقيّة، يتكون من توازن دقيق مؤلف من دقة المعلومة وحق الجمهور في معرفة من يتحقق منها.

بين الثقة والمساءلة.

في سوريا كما في مناطق ودول أخرى، تتدفق المعلومات والأخبار بشكلٍّ كبير من مصادر محلية ورسميّة وغير رسميّة، ما يجعل البيئة الإعلاميّة مضطربة وصعبة الفهم على الجمهور المتلقي، الذي يحاول التمييز بين مؤسسات محايدة أو متحيزة لطرف أو لآخر.

البيئة الإعلامية المضطربة لم تكن وحدها التي بنت شرخ الثقة والمساءلة بين الجمهور ومنصة التحقق، بل كذلك التأخر في التحقق من الأخبار الزائفة أو الصور المفبركة أو غيرها، هو أمرٌ متعلقٌ بأخطاء بشريّة بحتة، فأيّ خطأ صغير في التوثيق أو تأخر في الرد على خبر زائف يمكن أن يقلل الثقة العامة، حتى لو كانت المنصة دقيقة في أغلب الحالات.

وفي طرف آخر، ضعف التوعية الإعلامية لدى الجمهور يجعل الكثير من المتلقين لا يعرفون كيفية تقييم المصادر، أو التفريق بين الخبر الموثّق والمقال التحليلي، وبالتالي قد يرفضون المعلومات الصحيحة لمجرّد أنّها تختلف مع تصوراتهم أو معتقداتهم.

وفي المقابل، تسعى هذه المنصات لبذل قصارى جهدها في شرح منهجيتها وتعزيز التواصل مع الجمهور، لكن يبقى السؤال المهني: من يقيّم أداء هذه المنصات؟ وكيف يُضمن استقلالها عن الضغوط السياسية أو التمويلية لضمان مصداقية عملها واستمرار ثقة المتلقين؟

 نحو بيئة تحقق أكثر مهنية.

يبدو أنّه من الضروري اعتماد عدد من الإصلاحات المهنيّة، “الإعلان بوضوح عن مصادر التمويل لتجنب الشبهة، ووضع معايير تحريرية معلنة وشفافة، وإشراك صحفيين مستقلين في المراجعة الداخلية، وبناء شبكة تحقق سورية إقليمية لتبادل الخبرات والمواد ما يساهم في رفع مستوى المهنية”، لكن المستقبل يبقى مرتبطاً بقدرة هذه المنصات على بناء الثقة المتبادلة مع الجمهور لا مجرّد إثارة الجدل.

في الختام، إنّ منصات التحقق الإخبارية ليست خصماً ولا بديلاً عن الإعلام بل مساعداً له، وإنّ الحياد في هذا الأمر هو هدف صعب جداً لكنه ضروري، خاصة في بيئة شديدة الاستقطاب كالبيئة السورية.

بالرغم من الروايات التي تختلف من وسيلة إعلامية لأخرى ومن منصة لأخرى، لكن رواية الحقيقية لا تُحتكر مهما غابت الأضواء عنها، وما بين الحَكَم والطرف، تبقى مساحة المساءلة ونشر الحقيقة مفتوحة للجميع وهو اجتهاد بين كل الأطراف.

 

شارك

مقالات ذات صلة