Blog
عمر الهويدي
الرقة السورية، المدينة التي لم تتغير أهميتها رغم تعاقب سلطات الأمر الواقع، ما تزال محط اهتمام ومنطقة نزاع تعاني تداعيات ممتدة لعقود. هي، بقدر ما هي سؤال مفتوح، كذلك سجل من الألم؛ فهي ليست صفحة بيضاء كما يحب أهلها أن تكون، بل دفتر خطّه الدم والعزلة. قبل “قسد”، كانت تحت حكم تنظيم “داعش”، ثمّ تعرّضت لقصفٍ دموي من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وقبل “داعش” كانت تحت قصف النظام البائد وحليفه الروسي، أمّا قبل ذلك فكانت منسية على هامش دولة الأسديين.
وعندما انتهت معارك طرد “داعش”، وتنفس الناس قليلاً رغم الفاتورة الثقيلة التي تحمّلوها وحدهم، بدا للأمل أنّ الطريق إلى الاستقرار وشيك. غير أنّ الواقع سرعان ما كشف عن إدارة جديدة تحمل، بلا مواربة، إرث الأسدية في سلطويتها وقمعها، فكانت متشبعة بالعقلية الأمنية ومتمسكة بسياسات الاغتيال والاعتقال والإتاوات والانقسام وانعدام الشفافية لبسط النفوذ. وهكذا، وبوصفه واقعاً ملموساً، بقيت الرقة أسيرة دوامة شعارات الديمقراطية والخراب.
العدالة الانتقالية المنقوصة وملف الضحايا.
كلّ بيت في الرقة يحمل قصةَ ألم: معتقلون لا يُعرف مصيرهم، وضحايا قصف لم يُعترف بهم، وأمهات ينتظرن أبناءهن منذ سنوات. ومن الناحية المؤسسية، يتمثل الملف الأكثر تعقيداً في العدالة الانتقالية المنقوصة؛ إذ ركّز مرسوم رئاسة الجمهورية العربية السورية الصادر في 17 أيار/ مايو 2025 (المرسوم رقم 20) على توثيق جرائم النظام السوري بوصفه المسؤول الأكبر عن الانتهاكات، بينما تمّ، من جهة أخرى، تهميش جرائم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والفصائل المسلحة الأخرى، ما جعل آلافَ مرتكبي الجرائم ضدّ الإنسانية خارج أيّ محاسبة قانونية.
تشير شهاداتُ سكان الرقة وتقارير المنظمات الحقوقية إلى أنّ تنظيم “داعش” ارتكب سلسلةً واسعة من الانتهاكات ضدّ المدنيين خلال سيطرته على المدينة بين عامَي 2014 و2017، شملت الإعدامات الميدانية، والخطف والتعذيب في السجون السرّية، والتجنيد القسري للأطفال، واستخدام المدنيين دروعاً بشرية، وزرع الألغام والمفخخات على طرق النزوح.
وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد قُتل على يد التنظيم في الرقة نحو 942 مدنياً، من بينهم 151 طفلاً و83 امرأة، بينما بلغ عدد المفقودين قسراً 2125 شخصاً، من بينهم 36 طفلاً و12 امرأة. ويشير التقرير إلى أنّ هذه الإحصائية لا تغطي كامل فترة سيطرة “داعش” على المدينة، فضلاً عن نشاط التنظيم في مناطق الجزيرة السورية وريف حلب وبقية المحافظات الأخرى.
وقبل أن تفكر الحكومة الجديدة بجدية في مرحلة ما بعد “قسد”، عليها أن تُراجع دروس حرب عام 2017، حين تحوّلت المدينة إلى مسرحٍ للنار بين “داعش” من جهة، والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى. وبحسب تقارير منظمة العفو الدولية وأير وورز، تسببت الضربات الجوية للتحالف في مقتل أكثر من 1600 مدني، بينما اعترف التحالف بدايةً بمقتل 23 مدنياً فقط، قبل أن يرفع العدد لاحقاً إلى 77 بعد مراجعات وضغوط حقوقية.
وفي المقابل، وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل نحو 3271 مدنياً، بينهم 562 طفلاً، فضلاً عن آلاف المفقودين قسراً. هذه الفوارق في الأرقام ليست مجرّد إحصاءات، بل مفاتيح لفهم عمق المأساة وطبيعة الأسئلة القانونية والأخلاقية المعلّقة، خصوصاً ما يتعلّق بالمسؤولية عن الانتهاكات المتعددة التي ارتكبها “داعش” والأطراف الأخرى خلال فترة النزاع.
الدمار البشري والمادي: الرقة المهدمة.
ومع ذلك، تبقى الأرقام غيضاً من فيض الحكاية. فحجم الدمار الذي خلّفته مقاتلات التحالف تجاوز الخسائر البشرية إلى تدمير البنية التحتية تقريباً بأكملها. تشير التقديرات إلى أنّ أكثر من 80% من المدينة سويّت بالأرض، وتحوّلت أحياؤها إلى أنقاض تمتد على مد النظر. استُهدفت المرافق العامة والمباني الحكومية مثل مديرية الزراعة والمركز الثقافي ومبنى المحافظة والمالية ومجلس المدينة، إلى جانب الجسور التي كانت تربط ضفتي الفرات، فصارت الرقة، بلا مبالغة، جزيرة مقطعة الأوصال.
ويضاف إلى ذلك تدمير المنظومة الزراعية التي شكّلت العمود الفقري لاقتصاد المحافظة: معمل السكر ومعمل الأقطان وصوامع الحبوب ومحطات ضخ المياه وقنوات الري التي كانت تغذي عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي الخصبة. هذه المنشآت، إذا شئنا أن نكون واضحين، لم تكن مجرد رموز اقتصادية بل حياة كاملة لآلاف الأسر التي فقدت مصدر رزقها، لتتحوّل الزراعة من مورد استراتيجي إلى عبءٍ في ظلّ غياب الدعم وشح الموارد الأساسية.
اليوم، يقف المزارع الرقي أمام أرضه القاحلة كمن يحدق في مرآة سنوات الخراب: لا كهرباء ولا وقود لتشغيل المضخات، ولا سوق لتصريف المحاصيل، ولا مؤسسات تعوّض ما تهدّم. وبينما تنشغل السلطات المحلية بشعارات “التنمية والديمقراطية”، يغيب أي برنامج عملي لإحياء البنية الزراعية أو حتى لصيانة قنوات الري التي أصابها الدمار. ومن ثم، فإنّّ إعادة بناء الرقة لا تعني فقط رفع الإسمنت فوق الإسمنت، بل إعادة الدورة الاقتصادية والاجتماعية التي انكسرت بالكامل منذ الحرب.
ما بعد قسد: العدالة والمساءلة والدولة الجديدة.
في المضافات ومجالس الأحياء والمقاهي، يتكرّر النقاش ذاته بين الناس: هل نريد عودة الدولة؟ نعم، ولكن أيّ دولة؟ فواقع الحال يُظهر أنّ صورة النظام السابق لم تعد تُغري أحداً، فيما باتت استمرارية “قسد” مسألة وقت بالنسبة لغالبية السكان. الناس هنا يريدون فقط أن يعيشوا، أن يزرعوا ويعملوا، أن يعلّموا أبناءهم، وأن يكون لهم قانون يحميهم.
وهو، بلا شك، مفترق طرق: إمّا أن تكون الرقة مدخلاً لبناء سوريا جديدة، أو محطة أخرى من محطات الخيبة. وما بعد “قسد” لا ينبغي أن يكون مجرّد انتقال في السيطرة، بل ولادة مشروع وطني يرتكز على العدالة والمساءلة واحترام الإنسان. المواطنون في الرقة يطلبون العيش بكرامة: أن تُبنى مدارسهم قبل الفروع الأمنية، وأن يُعاد إعمار حقولهم قبل إقامة الاحتفالات؛ لأنّ الرقة تستحق دولة تُصغي إلى وجعها لا سلطة تبحث عن السيطرة.
وفي السياق السياسي المؤثر على مصير المدينة، يفتح دخول الحكومة السورية الجديدة تحالف مكافحة تنظيم داعش نقاشاً جوهرياً حول مستقبل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إذ تضعها أمام خيارين مركزيين: قبول الاندماج تحت وزارة الدفاع السورية أو الحرب كخيار. ويأتي هذا في وقتٍ تشهد فيه المنطقة تقاطعات إقليمية ودولية؛ فتركيا تدعم محور دمشق واشنطن من زاوية أخرى، بينما تظهر خلافات داخل الإدارة الأمريكية بين البنتاغون، الذي يواصل علاقات دعم مع “قسد”، والبيت الأبيض الذي، بحسب الانطباعات المتداولة، يميل إلى التعامل مع الحكومة السورية المركزية.
ومع اقتراب انتهاء المهلة المحددة حتى نهاية العام لتطبيق اتفاق العاشر من آذار/ مارس الموقّع في دمشق بين الرئيس أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، تدخل المنطقة مرحلة مفصلية جديدة، عنوانها سيطرة الدولة السورية على الرقة وبقية مناطق الجزيرة السورية. بغض النظر عن المسار الذي سيتخذه التنفيذ، سواء عبر حلّ عسكري محتمل أو دخول سلس يواكب نجاح اتفاق الدمج تحت مظلة وزارة الدفاع، والذي قد يجنّب المنطقة ويلات الحرب وتداعياتها، فإنّ هذا التطور يحمل من جانب آخر أبعاداً بالغة الخطورة.
فوجود “قسد” بشكل مكثف، وليس بالضرورة ككتلة موحدة، في ثلث مساحة سوريا يجعل أيّ دمج عسكري وسياسي وإداري عملية معقدة، إذ إنّ السيطرة على هذه المساحة لا تعني مجرّد إدارة جغرافية، بل إعادة رسم نفوذ واسع يتخلله تاريخ طويل من الانتهاكات والولاءات المتداخلة، ما يضع الدولة الجديدة أمام امتحان استثنائي في قدرتها على فرض القانون وبناء الثقة، وإدارة إرث الانقسامات الاجتماعية والسياسية على مرمة نار هذه المناطق.
غير أن هذا التحول يثير تساؤلات مشروعة داخل الرقة وخارجها: في حال تم دمج “قسد” مع الحكومة الجديدة أو دخول الرقة والجزيرة السورية بحل عسكري، هل ستطوي الدولة السورية هذه الصفحة الثقيلة من ذاكرة المدينة المثقلة بالدماء، وتتعامل معها كما لو أنّها لم تكن، أم ستضع سجلات انتهاكات “قسد” على طاولة العدالة والمساءلة؟ وفي سياق متصل، هل سيُدرج ملف الانتهاكات التي ارتكبها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضمن أولويات الحكومة، أم سيُطوى أيضاً، تاركاً المدينة بلا اعتراف شامل بمآسيها؟ إنّ طرح مثل هذه التساؤلات ليس مجرّد نقاش نظري، بل ضرورة معرفية لتقييم المخاطر الحقيقية وإمكانية بناء مشروع وطني يستند إلى العدالة والمساءلة، وليس إلى الطي السريع للماضي أو تجاهله.
إنّ ذهاب الدولة الجديدة إلى الرقة، سواء عبر اتفاق الدمج أو من خلال السيطرة المباشرة، لن يكون مجرّد سيطرة جغرافية، بل امتحاناً عسيراً لفكرة “الدولة الجديدة” نفسها. فهل ستكون الرقة نموذجاً لإدارةٍ مختلفة تنهي زمن الانتقام والتمييز وتبدأ زمن العدالة والاعتراف، أم ستتحوّل إلى مساحة اختبار للولاء وفرض السلطة من جديد؟ لا يخفى أنّ الإجابة تعتمد على قدرة المؤسسات على التغيير الحقيقي لا على شعارات.
وفي هذا السياق، يطرح تساؤل جوهري: في حال تمّ دمج “قسد” مع الحكومة الجديدة، أو دخول الرقة والجزيرة السورية عبر حلّ عسكري، هل سيُوضع سجل انتهاكات “قسد” على الطاولة للمحاسبة، أم سيتم طيه وكأنّه لم يكن؟ ومن دون مبالغة، هذا المسار لن يكون سهلًا. فالحكومة الجديدة ستواجه تحديات عميقة تتعلق بملف العدالة الانتقالية وبالضرر الاجتماعي والنفسي الهائل الذي خلّفته سنوات حكم “داعش” والانتهاكات الواسعة التي طالت المدنيين والناشطين المحليين. وأشير هنا بشكل خاص إلى أنّ أيّ تجاهل لخصوصية الرقة وبنيتها العشائرية المعقدة سيؤدي حتماً إلى فشل مبكر في إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. فالثائر العشائري ليس مجرد مسلح عابر، بل جزء من منظومة أعراف متجذرة في هوية المنطقة، وتجاوزه دون حوار أو إدماج حقيقي يعني استدعاء انقسام جديد.
إدارة إرث الانتهاكات في الرقة تتطلب الشفافية والمساءلة، من خلال مقاربة متوازنة تجمع بين العدالة والمصالحة. يجب أن تعترف هذه المقاربة بالضحايا وتضمن مساءلة جميع الجناة دون استثناء، لأنّ أيّ عدالةٍ ناقصة أو جزئية لا تؤدي فقط إلى فشل المرحلة الانتقالية، بل تفتح الباب لظهور آفات جديدة وصراعات مستمرة.





