مدونات

كرة القدم، ومُواطن، وديكتاتوريات تتربّص!

نوفمبر 13, 2025

كرة القدم، ومُواطن، وديكتاتوريات تتربّص!

الكاتب: زيني محمد لامين

لا يشغل بال الديكتاتوريات اليوم شيء بقدر المواطن، وبالتحديد ذلك المواطن المشاكس، النابض بالحياة، صاحب الفكر المتقد والثقافة الواسعة والنضج الذي يجعله ملاحظًا بامتياز، متسائلًا في أغلب الأحيان، مدركًا للهفوات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قادرًا على التمييز بين ما له من حقوق وما عليه من واجبات. فالمواطن الحيّ يشكّل بالنسبة للدكتاتور عنصر إرباك ومصدر إزعاج، ووسوسة دائمة لا تهدأ؛ إذ يظلّ هذا الأخير مشدود البال، مهموم الخاطر، مترصدًا حيويته المفرطة ونقده الكاشف، ساعيًا بكلّ ما أُوتي من أدواتٍ إلى إخماد نار فكره، وعزله عن عالم الفعل والتأثير، وطرده من ساحات الحياة العامة، عساه يتخلّص من تلك الوسوسة المؤرقة.

الأنظمة وسؤال المؤسسة.

تسعى الأنظمة الديكتاتورية إلى أن تُلزم هذا المواطن المشاغب بظلّها، وأن يفهم أنّها الظل الوحيد الممكن، وأن يقبع تحت سلطانها أبد الدهر دون أن يتزحزح قيد أنملة. ومن أجل ذلك لا بدّ أن تلجأ إلى أهل التخصص والمعرفة داخل برجها العاجي لتستشيرهم في المسألة. فديكتاتور اليوم ليس فرعونًا منفردًا، بل هو فرعون تحرسه مؤسسة عالية التنظيم والحيطة والمكر؛ تلك المؤسسة التي تشبه ما سماه الكواكبي في طبائع الاستبدادبـ”الأعوان” حين قال: “المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه”. والمستبد فعلًا عاجز لولا المؤسسات التي خلفه، ولذلك يسأل أعضاء مؤسسته العارفة:

كيف أجعل هذا المواطن رهن إشارتي؟ كيف أجرده من حسّ المسؤولية وأفرغ فكره من كلّ قيمة حقيقية؟ ما الذي يضمن انشغاله عن رؤية ذاته الحقيقية وعن بؤس عيشه؟ وما الذي يكفل قبل ذلك سلامة كرسي الحكم الأبدي؟

وحين تُستشار هذه النخبة، تشمر عن علمها وتجيبه بوضوح: إنّ ما تبحث عنه يكمن في تلك “المستجدّة الساحرة” القادرة على تخدير الجميع بلا استثناء… كرة القدم.

فهذه اللعبة الحديثة نسبيًا أثبتت، بالأرقام والوقائع، كفاءتها في عالم التسلية والترفيه المخدّر. إنّها قادرة على فصل الإنسان عن واقعه المعاش، والطيران بعقله إلى عالم الصخب الجماهيري والأخبار المتلاحقة واللحظات المتوترة والمنسية. وبخاصة مع إدمان الشاشات الرياضية، وما تخلّفه من خمول، وانسحاب من الحركة الحية، لتبقى المشاعر محصورة في النشوة والفرجة الباذخة.

لقد أصبحت كرة القدم اليوم، بشعبيتها الجارفة، أكثر ما يمكن أن يخدم مصلحة المستبد؛ فمادتها التخديرية شاملة، تتفاعل مع الصغير والكبير، مع الرجل والمرأة، مع كل فئات المجتمع تقريبًا. وهي بذلك أفضل ما يصرف انتباه المواطن، ويزيح عن كرسي الحاكم المخاطر المهددة. بل إنّها تصنع جماهير واسعة خارج دائرة التأثير، لا يعنيها القرار السياسي أو الاجتماعي، ولا تتجاوز أمنياتها إقامة مباراة أو تتويج فريق أو نجاح صفقة انتقال لاعب. وهذا بالضبط ما يريده المستبد… فتبارك الله أحسن المخدرين!

إنّها رياضة نعم، لكنّها قبل ذلك لعبة نفسية بامتياز، قادرة على مزج آلاف المشاعر دفعة واحدة: الفرح والحزن، البكاء والضحك، الغضب والانشراح. وكلّ هذه المشاعر قابلة للتوظيف حين تُذاع المباريات عبر محطات فضائية مجيدة في فن الصوت والمجاز والتأثير.

ولذلك تنفست الأنظمة الشمولية الصعداء، وأصدرت فرماناتها، وأدخلت كرة القدم في صميم أولوياتها، ورفعت اللاعبين إلى منزلة السادة، وفتحت أبواب المال على مصاريعها لهم. ثمّ شرعت الشركات في تشييد الملاعب المبهرة، وصناعة كلّ ما يجعل اللعبة أجمل في أعين المهووسين بها.

حقيقة الصور الراقية التي تخرج من الملاعب.

هذه الأنظمة ليست من الغباء بحيث لا تنتبه للمظاهر التي تُزعجها أحيانًا في بعض الملاعب: هتافات واعية، صور حضارية، رسائل إنسانية أو سياسية تُلتقط وتُنشر عبر وسائل التواصل. وقد شهدنا مؤخرًا كيف هتف الجمهور دفاعًا عن قضايا إنسانية، ورفضًا صريحًا للإبادة والتطهير في غزة، رغم أنّ الحرب تعلن على الورق أنّها توقفت بينما الواقع يشي بكثيرٍ من الريبة.

لكن الأنظمة لا تتخذ قرارًا دون العودة إلى مؤسستها العارفة؛ فترفع إليها هذه “المشاهد المزعجة” وتطلب تفسيرًا. وهنا يأتي الجواب:
هذه الصور لحظات عابرة، شعارات مؤقتة، تتبدد بتبدد اللحظة الزمنية. فبمجرّد انتهاء المباراة، يعود عشّاق المستديرة إلى هواتفهم وتذاكرهم، ولا يبقى من المشهد شيء.
ولو كان لهذه الهتافات أثر حقيقي، لما تزامنت مع احتقان اجتماعي واقتصادي خانق دون أن تُترجم إلى فعلٍ سياسي أو وعي منظم. إنّه وميض مؤقت لا يقارن بالصور “الوظيفية” النافعة للنظام، وبالتالي فهو خطر متوهَّم لا أكثر.

كرة القدم والسياسة.

بعد أن صارت كرة القدم أداة بيد الديكتاتور، وبعد أن اختُبر فاعليتها التخديرية المزدوجة—تخدير الشيوخ والشباب معًا—ترقى في توظيفها حتى أصبحت وسيلته المفضلة لإشعال صراعات وهمية بين الشعوب، واستغلال شعبيتها بين الشباب لإدارة طيشهم وتوجيهه. وصارت كذلك مادة برغماتية يلجأ إليها كلما شعر بقلق سياسي.

فإن ضاق صدره، رماها في مسرح “السحرة الأجراء” من إعلاميين، ليجعلوها مادة تحريضية تُستخدم ضد أيّ مخالف. فيتفنن هؤلاء السحرة في الشتم والانتقاص وإحياء النعرات، بغرض تحويل البوصلة بعيدًا عن الحقيقة، وإبقاء الجميع مشغولين بحروبٍ يكون الجميع فيها—من البداية—خاسرين.

وقد شهدنا ذلك حين استُثمرت كرة القدم سياسيًّا في معارك الوهم، مثل معركة أم درمان 2009، التي خلّفت من الحساسية والخصام ما لا يليق بشعبين تجمعهما حضارة واحدة ومصير واحد.

ختامًا

إن ما يحيط بظاهرة كرة القدم اليوم واقع مستجدّ يحتاج إلى بحث معمق ودراسات جادة تكشف ماهيتها ودورها وتأثيراتها، وصولًا إلى فهم كافٍ لجرحها الغائر ومحاولة الاستشفاء منه. فليست المشكلة في اللعبة نفسها، بل في من يحولها إلى أداة تخدير، أو إلى سلاحٍ يصنع الأوهام ويُلهي عن الجوهري، ويغطي أعطاب السياسة والاقتصاد والمجتمع برسائل الفرجة والمتعة المسروقة.

شارك

مقالات ذات صلة