سياسة

حملة ضد داعش تكشف معركة الشرعية

نوفمبر 12, 2025

حملة ضد داعش تكشف معركة الشرعية

أطلقت وزارة الداخلية السورية بالتعاون مع إدارة مكافحة الإرهاب حملة أمنية واسعة ضد خلايا تنظيم الدولة “داعش” في عدة محافظات سورية، في خطوةٍ وُصفت بأنّها الأوسع منذ إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية مطلع عام 2025، وتهدف إلى إحكام السيطرة الميدانية وضبط الأمن في المناطق التي شهدت خلال الأشهر الماضية نشاطاً متزايداً لخلايا التنظيم. جاءت هذه الحملة في لحظةٍ سياسية حساسة، تزامناً مع مؤشرات على قرب انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، ما يجعلها ذات أبعاد تتجاوز البعد الأمني البحت إلى ما هو سياسي واستراتيجي في المقام الأول.

في المشهد الميداني، توزعت العمليات الأمنية على عدة محافظات أبرزها حمص وريف دمشق وإدلب، حيث تمكنت قوى الأمن من إلقاء القبض على عددٍ من عناصر التنظيم وضبط كميات من الألغام وأجهزة الاتصال اللاسلكي ولوحات السيارات المزورة التي استُخدمت في تنقلات الخلايا. في حمص، وُصفت الحملة بأنّها “استباقية” ومبنية على معلوماتٍ دقيقة جُمعت عبر تنسيق بين المخابرات العامة ووحدات مكافحة الإرهاب، بعد أسابيع من عمليات اغتيال محدودة طالت عناصر شرطة ومدنيين، وهو ما اعتُبر مؤشراً على عودة التنظيم إلى أسلوب “الذئاب المنفردة” في وسط البلاد. 

أمّا في ريف دمشق، فقد نفّذت وحدات الأمن الداخلي سلسلة مداهمات في المناطق الريفية الغربية والشمالية، شملت بلدات معضمية القلمون وحران العواميد، وأفضت إلى تفكيك خلية كانت تُعد لهجمات على مراكز شرطية. وفي إدلب، أفادت تقارير إعلامية أنّ القوات الأمنية اعتقلت عدداً من العناصر خلال مداهمات متزامنة قرب أرمناز وحارم، وضبطت أسلحة فردية ومتفجرات خفيفة.

تُظهر طبيعة العمليات أنّ المقاربة الأمنية الجديدة تتسم بطابع أكثر مركزية وانضباطاً مقارنة بالأساليب التقليدية السابقة التي كانت تعتمد على رد الفعل. فوفقاً لمصادر في وزارة الداخلية، تستند الخطة إلى مبدأ “الضربة الاستباقية الموزونة”، أي تنفيذ عمليات سريعة ومدروسة دون اللجوء إلى الانتشار الواسع الذي قد يثير توترات محلية. ويبدو أنّ هذا التوجه يعكس إدراكاً رسمياً بأنّ بقاء خلايا التنظيم في بعض المناطق ليس مجرّد تهديد أمني بل تحدٍ مباشر لشرعية الدولة الجديدة التي تحاول تثبيت حضورها بعد مرحلةٍ طويلة من الفوضى المؤسسية.

لكن البعد الميداني لا ينفصل عن البعد السياسي الذي أخذ يتبلور في الأسابيع الأخيرة مع تسارع الحديث عن انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب. فقد صرّح المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توم باراك، مطلع نوفمبر الحالي، بأنّ “من المحتمل” أن تشهد زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن توقيع اتفاق انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش” وهو ما حدث. التصريح ترافق مع مواقف أوروبية مشابهة، إذ دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره السوري خلال لقائهما في البرازيل إلى “الانخراط الكامل في الجهد الدولي المشترك ضد الإرهاب”، معتبراً أنّ التعاون الأمني مع دمشق “ضرورة لحماية الفرنسيين”، في إشارة إلى الهجمات التي شهدتها باريس عام 2015 والتي خُطط لها انطلاقاً من الأراضي السورية.

يأتي هذا الانفتاح الدولي بالتزامن مع قرار مجلس الأمن، في السادس من نوفمبر 2025، رفع العقوبات عن الرئيس أحمد الشرع ووزير داخليته أنس خطاب، وهو قرار فُسّر كإشارةٍ على نية القوى الكبرى إعادة دمج سوريا في منظومة التعاون الدولي. هذه الخطوات المتتابعة، من رفع العقوبات إلى الدعوات السياسية، ترسم ملامح مرحلة جديدة من علاقة دمشق بالمجتمع الدولي، عنوانها التعاون الأمني كمدخلٍ لإعادة الاعتراف والشرعية، وهو ما يُفسّر جزئياً توقيت الحملة الأمنية الراهنة ضد خلايا التنظيم.

يمكن القول إن الحملة الأمنية الحالية تحمل أبعاداً مزدوجة، داخلية وخارجية. داخلياً، تمثل محاولة لإعادة فرض هيبة الدولة ومأسسة دور الأجهزة الأمنية بعد مرحلة من التسيب والانقسام، وتأكيد أنّ الحرب ضد الإرهاب ستُدار بيد مؤسسات وطنية لا عبر تحالفات ظرفية أو مليشيات محلية. أمّا خارجياً، فهي رسالة سياسية للولايات المتحدة وشركائها بأنّ دمشق قادرة على ضبط أراضيها والمساهمة الفعلية في محاربة التنظيم دون الحاجة إلى وسطاء إقليميين. من هذه الزاوية، تتحوّل مكافحة الإرهاب إلى ورقة دبلوماسية تستخدمها الحكومة الجديدة لتعزيز موقعها التفاوضي مع واشنطن وباريس وأنقرة في آنٍ واحد.

ورغم أنّ الحملة أظهرت قدرة ميدانية محسوبة، فإنها تكشف في الوقت نفسه حجم التعقيد الذي يواجه الملف الأمني السوري. فخلايا “داعش” لم تعد تتركز في مناطق نائية كما في السابق، بل انتشرت في بيئاتٍ مدنية مختلطة يصعب التمييز فيها بين العنصر الموالي والمعادي. هذا التحوّل فرض على الأجهزة الأمنية تطوير أدواتها الاستخبارية واعتماد تقنيات مراقبة واتصالات متقدمة، مع الحرص على تقليل الأضرار الجانبية التي قد تُستغل سياسياً من خصوم الحكومة. كما أنّ التنسيق بين وزارة الداخلية ووزارة الدفاع في هذه العمليات يشير إلى تحول في آليات صنع القرار الأمني، بحيث تُدار العمليات ضمن غرفة مركزية واحدة بإشراف مباشر من القيادة الوطنية للأمن الداخلي.

يُضاف إلى ذلك أنّ الحملة الحالية تأتي في وقت تتزايد فيه التحديات على الحدود الشرقية والشمالية، حيث تنشط فلول التنظيم في البادية الممتدة بين دير الزور والرقة، وتتحرك مجموعات صغيرة عبر خطوط التماس القديمة مع قوات “قسد”. هذا الواقع يجعل من نجاح العمليات داخل المدن خطوة ضرورية لكنّها غير كافية ما لم تترافق مع استراتيجية متكاملة لمعالجة التهديدات في المناطق المفتوحة. ومن المرجح أن يشهد العام المقبل توسعاً لهذه العمليات بالتنسيق مع شركاء دوليين بعد الإعلان الرسمي عن انضمام دمشق إلى التحالف الدولي.

من زاوية أخرى، تبدو الحملة الأمنية جزءاً من معركة رمزية لاستعادة صورة الدولة بعد سنواتٍ من الحرب والانقسام. فنجاحها في تفكيك الخلايا يوجّه رسالة داخلية بأنّ الدولة الجديدة قادرة على حماية مواطنيها من دون الاعتماد على الحلفاء الخارجيين، ويعزز في الوقت نفسه سردية “الاستقلال الأمني” التي تسعى دمشق لترسيخها في خطابها الرسمي. غير أنّ هذه الصورة ستظل رهناً بمدى قدرة الحكومة على استدامة الأمن لا مجرّد تحقيق إنجازات ظرفية، إذ أثبتت التجارب السابقة أنّ تفكيك الخلايا لا يعني بالضرورة نهاية التنظيم، بل انتقاله إلى أنماطٍ جديدة من العمل السري.

في المحصلة، تعكس الحملة الأمنية ضد خلايا “داعش” لحظة مفصلية في مسار سوريا السياسي والأمني، إذ تتقاطع فيها اعتبارات الداخل والخارج، الأمن والسياسة، الشرعية والسيادة. فالدولة التي تحاول أن تعيد بناء مؤسساتها بعد عقد من الصراع تدرك أنّ الحرب على الإرهاب لم تعد مجرد قضية أمنية، بل أداة لإعادة التموضع في النظامين العربي والدولي. ومن هنا، يبدو أنّ دمشق تراهن على أنّ النجاح في هذا الملف سيكون بوابة العبور نحو مرحلةٍ جديدة من الشراكة الدولية، حيث تتحوّل مكافحة “داعش” من عبءٍ إلى فرصة لإعادة تعريف موقع سوريا في معادلات الأمن الإقليمي.

شارك

مقالات ذات صلة