سياسة
في لحظةٍ سياسية هي الأبرز منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024، وصل الرئيس السوري أحمد الشرع إلى العاصمة الأمريكية واشنطن برفقة وزير الخارجية أسعد الشيباني، في زيارةٍ رسمية هي الثانية له إلى الولايات المتحدة، لكنّها الأولى من نوعها على مستوى العلاقة الثنائية بين البلدين منذ استقلال سوريا.
وتأتي الزيارة عشية لقاء رسمي مرتقب مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، لمناقشة مجموعة من الملفات الحساسة، أبرزها رفع العقوبات الأمريكية (قانون قيصر)، والاتفاق الأمني مع إسرائيل، وملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إلى جانب بحث آفاق التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب وإعادة الإعمار في سوريا.
من العزلة إلى البيت الأبيض
منذ عام 1963، حين وصل حزب البعث إلى السلطة، ظلّت دمشق تدور في فلك المعسكر الشرقي، محافظة على علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفيتي ثمّ روسيا، ومتحالفة مع إيران، مقابل قطيعة سياسية واقتصادية طويلة مع الغرب. لكن بعد سقوط النظام السابق وتشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، بدأت ملامح تحوّل تدريجي في السياسة الخارجية السورية، تقوم على البراغماتية والانفتاح الحذر، وإعادة التموضع في النظامين العربي والدولي.
هذه الزيارة، وفقاً للمحللين، تمثل تتويجاً لمسار دبلوماسي معقّد أعاد سوريا تدريجياً إلى المشهد الدولي بعد أكثر من عقد من العزلة، وكسرت أحد أقدم “التابوهات” في العلاقات الدولية: زيارة رئيس سوري إلى البيت الأبيض.
الزيارة “تاريخية” وتفتح فصلاً جديداً من العلاقات
يصف الناشط السياسي السوري خالد أبو صلاح في حديثٍ خاص لمنصة “سطور”، الزيارة بأنّها “فعل تاريخي”، موضحاً أنّها “أول زيارة لرئيس سوري إلى البيت الأبيض منذ استقلال البلاد، وهي تحمل رمزية سياسية كبرى تتجاوز البروتوكول”.
ويضيف: “الأهداف متعددة ومتشابكة: فتح فصل جديد في العلاقات الأمريكية السورية بعد تاريخ طويل من العقوبات والعزلة. فدمشق الجديدة تسعى لإعادة بناء موقعها في النظام الدولي، في حين ترى واشنطن فرصة لإعادة صياغة العلاقة مع سوريا وفق منطق جديد: الأمن مقابل الاستقرار”.
ويشير أبو صلاح إلى أنّ رفع العقوبات الأمريكية يشكّل أولوية لدى دمشق، كونها تمثل العائق الأكبر أمام إطلاق عجلة الاقتصاد وإعادة الإعمار. وفي المقابل، تدرك واشنطن أنّ انهيار سوريا مجدداً قد يعزز نفوذ موسكو وطهران، ما يدفعها حسب قوله إلى تفكيك تدريجي لنظام العقوبات، مقابل ضمانات سياسية وأمنية قابلة للقياس من الجانب السوري.
ملفات اللقاء: من “قيصر” إلى “قسد”
يرجّح أبو صلاح أن تتناول المباحثات المرتقبة بين الشرع وترامب عدة مسارات رئيسية، تشمل:
ملف العقوبات: إذ تسعى دمشق إلى رفع أو تخفيف العقوبات المفروضة منذ عهد النظام السابق، وفي مقدمتها “قانون قيصر”. وتتجه المفاوضات وفقاً للمصادر نحو صياغة “خريطة طريق مشروطة”، تتضمن التزامات سورية واضحة تتعلق بمكافحة الإرهاب وضبط النفوذ الإيراني والروسي.
إعادة الإعمار والاستثمارات: تحمل الحكومة السورية برنامجاً لجذب الاستثمارات الدولية، خصوصاً من دول الخليج والولايات المتحدة، في إطار إعادة دمج سوريا في الاقتصادين الإقليمي والعالمي. وتعتبر دمشق أنّ فتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية هو المدخل العملي للاستقرار، فيما تشترط واشنطن إصلاحات مؤسسية وضمانات شفافية قبل الانخراط المباشر.
الأمن ومكافحة الإرهاب: يتوقع أنّ يشمل اللقاء بحث سبل التعاون الأمني والاستخباراتي، خصوصاً في مواجهة تنظيم “داعش” وبقايا الجماعات المتطرفة. وتشير التسريبات إلى احتمال توقيع اتفاق مبدئي للتنسيق الأمني بين البلدين، بما يضمن عدم تحول سوريا إلى ساحة اختراق أمني أو نفوذ خارجي معادٍ.
ملف “قسد” وتوازن شرق الفرات: يصف أبو صلاح هذا الملف بأنّه “العقدة المركزية في المشهد السوري الراهن”، حيث يتقاطع فيه النفوذ الأمريكي والتركي والسوري في منطقة واحدة.
ويقول: “الولايات المتحدة، وإن كانت تدرك محدودية مشروع قسد، إلا أنّها تعتبرها أداة استراتيجية ضد داعش وإيران. لذلك، قد يبحث اللقاء شكل ’الدمج المنضبط‘ لقسد داخل الدولة السورية، بترتيبات تضمن وحدة الأراضي السورية وتوازن المصالح مع تركيا”.
التطبيع أو التهدئة: أخطر الملفات على الطاولة
من أبرز الملفات المتوقعة في اللقاء بحسب أبو صلاح هو المسار الإسرائيلي، أو ما يسميه “ملف التهدئة لا التطبيع”. ويشرح: “من المرجّح أن تسعى واشنطن إلى تطويق النفوذ الإيراني في الجنوب السوري وتأمين الحدود الإسرائيلية الشمالية. وقد يُطرح على دمشق عرض لتهدئة تدريجية، لا تشمل اعترافاً رسمياً، بل التزاماً بعدم السماح بعمليات مسلحة على الحدود ونزع سلاح بعض المناطق الحساسة”.
ويضيف: “دمشق تدرك أنّ أيّ تطبيعٍ فجّ مع إسرائيل قد يقوّض شرعيتها داخلياً، لذلك المرجّح هو القبول بترتيبات تهدئة أمنية تُدار عبر وساطات عربية وخليجية، وتحت رعاية أمريكية. بعبارة أدق، قد لا تدخل سوريا الاتفاق الإبراهيمي، لكنّها قد تنخرط في (حزامه الأمني) إذا توفرت لها الضمانات والمكاسب”.
استعادة الشرعية الدولية
يشير أبو صلاح إلى أنّ أحد محاور الزيارة يتعلق بتعزيز الشرعية السورية الجديدة بعد سقوط النظام السابق، وإعادة إدماج سوريا في المنظومة الدولية عبر تحالفاتٍ أمنية واقتصادية جديدة.
ويرى أنّ “الرئيس أحمد الشرع يدخل هذا المشهد محمّلاً بتحديات الداخل، لكنّه يمتلك ما يفتقده كثيرون في هذا الشرق المعقّد الواقعية السياسية”، وهو ما يجعل واشنطن بحسب تعبيره “تفتح الباب، بحذر، لسوريا مختلفة”.
زيارة “فتح الباب” و”الزيارة الكبرى”
تأتي زيارة الشرع الحالية بعد أكثر من شهر من لقائه الأول بالرئيس ترامب على هامش الدورة الاعتيادية للأمم المتحدة في نيويورك. آنذاك، كان اللقاء رمزياً، إذ كان اسم الشرع ما يزال مدرجاً على لوائح العقوبات الدولية. يقول أبو صلاح: “الوضع القانوني والدبلوماسي للرئيس الشرع تغيّر بعد رفع اسمه من قائمة العقوبات عقب قرار مجلس الأمن الأخير، ما مهّد الطريق لعقد اجتماع رسمي خاص في البيت الأبيض. اللقاء السابق كان فتح باب، أمّا الزيارة الحالية فهي افتتاح فصل جديد في العلاقات السورية الأمريكية”.
تزامن لافت: زيارة هاكان فيدان إلى واشنطن
يتزامن وجود الرئيس الشرع في واشنطن مع زيارة رسمية يجريها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، وهو تزامن لا يراه أبو صلاح محض صدفة دبلوماسية. ويقول: “التزامن ليس مصادفة بروتوكولية، بل رسالة جيوسياسية مشفّرة تعبّر عن لحظة إعادة ترتيب الأوراق في الملف السوري. فما يجري ليس اجتماعاً منفصلاً لمسارين، بل تقاطع ضروري بين ثلاثة أطراف تمسك بمفاتيح الملف السوري: واشنطن، أنقرة، ودمشق”.
في قلب هذا التقاطع يبرز ملف “قسد”، إذ ترى أنقرة فيها تهديداً وجودياً لأمنها القومي وتعتبرها امتداداً لحزب العمال الكردستاني. ويضيف أبو صلاح أنّ “تركيا تطالب بإنهاء الدعم الأمريكي لـ(قسد)، وضمان أمن حدودها الجنوبية، وإعادة سلطة الدولة السورية في تلك المناطق لكبح الطموحات الانفصالية”، مشيراً إلى أن زيارة فيدان تهدف إلى إعادة تثبيت هذا الموقف أمام واشنطن التي تحاول الموازنة بين الطرفين.
واشنطن بين “ورقة الضغط” و”صفقة الدمج”
في المقابل، يوضح أبو صلاح أنّ واشنطن تستخدم “قسد” ورقة ضغط مزدوجة: أداة ميدانية لمحاربة داعش، وورقة تفاوضية في ميزان علاقتها مع أنقرة وطهران ودمشق. لكنّه يلفت إلى أنّ التحالف مع “قسد” أصبح مكلفاً سياسياً، ما يدفع الإدارة الأمريكية إلى البحث عن تسوية تحفظ مصالحها دون خسارة شركائها الإقليميين.
ويتابع: “الهدف الأمريكي المرجّح اليوم هو ضمان بقاء قسد قوة محلية منزوعة الطموح الانفصالي وتحت مظلة الدولة السورية، مقابل تسوية ترضي تركيا أمنياً وسوريا سياسياً. ما يعني الوصول إلى صيغة ’دمج منضبط‘ لقسد داخل الدولة السورية، بإشراف وضمانات دولية”.
رؤية دمشق: السيادة دون حرب
من الجانب السوري، يؤكد أبو صلاح أنّ القيادة الجديدة في دمشق تدرك أنّ ملف قسد هو مفتاح التفاهم مع كلّ من تركيا وأمريكا. ويقول: “سوريا بقيادة الشرع تريد استعادة السيادة شرق الفرات دون إشعال حرب مفتوحة. هي تسعى لتحجيم النفوذ الكردي تدريجياً عبر آلية احتواء لا كسر، وتحويل قسد من سلطة أمر واقع إلى مكوّن سياسي أمني ضمن الدولة. هذه الرؤية تتطلب ضوءاً أخضر أمريكياً وضمانات تركية، وهو ما يُبحث اليوم في واشنطن”.
نحو خريطة جديدة لشمال شرق سوريا
بحسب التقديرات التي نقلها أبو صلاح، فإنّ السيناريو المرجّح هو تشكيل لجنة ثلاثية (أو تنسيق ثنائي متوازي) بين واشنطن وأنقرة ودمشق، لرعاية خارطة انتقال تدريجية في مناطق الإدارة الذاتية. وتتضمن هذه الخارطة: دمج قسد تدريجياً داخل مؤسسات الدولة السورية، وضمانة أميركية بعدم ملاحقة عناصرها في المرحلة الأولى، وإعادة نشر رمزي للجيش السوري في مناطق شرق الفرات، ومفاوضات محلية برعاية دولية لإدماج القوى الكردية ضمن المشروع السياسي الوطني.
ويختم أبو صلاح حديثه لـ”سطور” بالقول: “التزامن بين الزيارتين السورية والتركية ليس صدفة، بل إعلان غير مباشر أنّ ملف (قسد) انتقل من خانة الأمر الواقع إلى خانة المفاوضات الدولية. والمفتاح الآن بيد ثلاثي أنقرة (الأمن)، واشنطن (التأثير)، ودمشق (السيادة). فالصراع لم يعد حول من يحكم شرق الفرات، بل كيف يمكن تفكيك عقدته دون تفجير كلّ شيء”.
زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن تتجاوز الدلالات البروتوكولية إلى تأسيس مرحلة جديدة في السياسة السورية، قوامها التوازن بين الواقعية والمصالح. في المشهد الدولي الجديد، تحاول دمشق أن تخرج من إرث البعث دون أن تدخل في وصاية الغرب، وأن تعيد تعريف موقعها بين الشرق والغرب. وإذا كانت واشنطن تبحث عن شريك “قابل للتفاهم” في سوريا ما بعد الحرب، فإنّ الشرع يبدو مؤهلاً لأن يكون هذا الشريك، بشرط أن يوازن بين السيادة الوطنية والانفتاح المسؤول.
في كلّ الأحوال، زيارة البيت الأبيض ليست مجرّد محطة دبلوماسية، بل امتحان سياسي لعقل الدولة السورية الجديدة: هل تستطيع أن تفتح الأبواب دون أن تفقد استقلال قرارها؟





