سياسة

الشرع في واشنطن.. زمن السياسة يبدأ

نوفمبر 9, 2025

الشرع في واشنطن.. زمن السياسة يبدأ

وصل الرئيس أحمد الشرع إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، في لحظةٍ وُصفت بأنّها الأهم في التاريخ الدبلوماسي السوري الحديث، واعتُبرت زيارة الشرع هي الأولى من نوعها منذ استقلال سوريا عام 1946.

وجاءت الزيارة بعد القرار الصادر من مجلس الأمن بشطب الشرع ووزير الداخلية أنس خطّاب من قوائم الإرهاب، لتُسّر بأنّها بعد سياسي عميق تجاوز البروتوكولات ليعيد تعريف موقع سوريا في العالم بعد عقودٍ من العزلة والعقوبات والقطيعة.

وسيلتقي الشرع يوم الإثنين المقبل بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، في خطوةٍ عُرفت بـ “المرحلة الدبلوماسية الثانية، بداية ما بعد الحرب لسوريا”، بعد أن أنهت البلاد حقبة حكم الأسد، وحررت أراضيها من المليشيات الأجنبية.

وتأتي الزيارة في وقتٍ تشهد فيه الساحة السورية تحولات أمنية واقتصادية متسارعة، أبرزها تنفيذ عمليات استباقية ضد خلايا تنظيم الدولة في مختلف المحافظات، في تأكيد على أنّ الدولة الجديدة تمسك بزمام أمنها الداخلي، وتستعيد هيبتها تدريجياً.

واعتبرت زيارة الشرع لواشنطن نقطة تحوّل في مسار العلاقات السوريّة الأمريكيّة حسب ما رأى مراقبون، خصوصاً مع الحديث عن توقيع اتفاق “انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة”، وبدء محادثات حول رفع العقوبات وإعادة دمج الاقتصاد السوري في النظام المالي العالمي.

وفي ذات السياق، تُطرح أيضاً على طاولة الحوار المفاوضات الأمنية مع إسرائيل بوساطةٍ أمريكية، لتدخل دمشق مرحلةً سياسيّةً متقدمة تسعى فيها لتثبيت “سيادة الدولة السوريّة عبر أدوات السياسة لا السلاح، ومن أجل استثمار هذه اللحظات بالقبول الدولي في استعادة المكانة الإقليمية السورية.

 

من الحرب إلى السياسة

الزيارة الرسمية من قبل الشرع إلى واشنطن هي حدث مهم في سجل العلاقات السورية الأمريكية، وتتويج لمسارٍ طويل بدأ منذ تحرير سوريا من الأسد البائد وحلفائه ليصل اليوم لولادة سوريا الجديدة من تحت الركام العسكري والسياسي.

فبعد سنوات من العزلة والعقوبات والاقتتال، بدت الدولة أمام اختبار جديد: كيف تنتقل من منطق البندقية إلى منطق الدولة، من ميادين الحرب إلى طاولة التفاوض؟

الشرع، الذي رافق السوريين في الثورة السورية، وفي رحلة التحرير، وكان وجهاً مألوفاً في أصعب اللحظات، لم يحمل معه إلى العاصمة الأمريكية فقط ملفات التعاون والأمن، بل رمزية المرحلة التي تمثلها قيادته، فزيارته جاءت بعد نحو عام من إعادة بناء المؤسسات المدنية في سوريا، وتشكيل حكومة مؤقتة حازت اعترافًا دوليًا متدرجًا، ما جعل واشنطن ترى في دمشق الجديدة شريكاً محتملاً لا خصماً أيديولوجياً.

التحوّل هنا كان في الداخل.. في وعي السوريين، حيث إنّ زمن الصراع على الشرعيّة انتهى، والسياسة في الحقيقة هي ساحة هذه المرحلة الجديدة، فبعد أن توحّد الخطاب الرسمي حول مفهوم “سوريا الدولة”، لم تعد واشنطن تُقابل بحذر بل بحسابات المصالح، ومع أنّ الطريق نحو الاعتراف الكامل ما زال طويلاً، إلا أنّ الجلوس وجهاً لوجه مع صانعي القرار الأميركيين يُعدّ خطوة رمزية تعادل معركة أخرى، تُخاض هذه المرة بالكلمة لا بالسلاح.

بهذا المعنى، حملت الزيارة روحاً مزدوجة، انتصاراً سياسياً بعد نصر ميداني، ورسالة واضحة للعالم أن سوريا ما بعد الأسد ليست دولة تبحث عن الاعتراف، بل دولة بدأت تفرض وجودها مجدداً على خريطة العالم.

 

سوريا بين الواقعية والتحالفات المتوازنة

هذه الزيارة قائمة على مبدأ الواقعية لا الاصطفاف، فحسمت دمشق الجديدة مرحلة التحرير والتفاصيل الداخلية لتفتح أبوابها على الخارج بلغة المصالح المشتركة لا بلغة قائمة على الشعارات القديمة، لم يعد السؤال: “مع من نقف؟” بل “كيف نحافظ على مكاننا، دون أن نفقد استقلالنا؟”.

هذا التوازن الدقيق هو ما حاول الشرع ترسيخه في لقاءاته الأمريكية، حيث ناقش ملفات الأمن الإقليمي، مكافحة التهريب، ومستقبل إعادة الإعمار، ووفق مصادر دبلوماسية، فإنّ المباحثات ركزت على ضمان انفتاح الغرب على مشاريع الإعمار دون المساس بسيادة القرار الوطني، وعلى إبقاء خيوط التواصل مع موسكو وأنقرة فاعلة ضمن إطار مصالح متبادلة لا تبعية.

الشرع، الذي يُعرف عنه إتقانه للغة الدبلوماسية الهادئة، ظهر في واشنطن بصفته رئيس دولة يعرف ما يريد “شراكات اقتصادية مدروسة، إعادة الثقة بالمؤسسات السورية، واستعادة الدور الطبيعي لسوريا كجسرٍ بين الشرق والغرب”، فبينما تنشغل المنطقة بإعادة رسم خرائطها، تسعى دمشق إلى موقع لا تذوب فيه في تحالفٍ واحد، ولا تُقصى عن طاولة القرار.

بهذه المقاربة، تعيد السياسة السورية تعريف علاقتها بالعالم من خلال مبدأ “لا عداء مجاني ولا ولاء أعمى”، فالتحالفات الجديدة تُبنى على الأرضية الصلبة للمصلحة الوطنية، لا على ركام الأيديولوجيا، ومن واشنطن تحديداً، أراد الشرع أن يقول للعالم إنّ زمن المحاور انتهى، وإنّ سوريا تدخل مرحلة “البراغماتية السيادية”؛ دولةٌ تحاور الجميع ولا تتنازل عن نفسها لأحد.

 

دولة تستعيد مكانتها وهيبتها

لم تكن زيارة الشرع إلى واشنطن حدثاً موجهاً للخارج فقط، بل رسالة مزدوجة إلى الداخل السوري، مفادها أنّ الدولة الجديدة تمضي بثقة بتثبيت حضورها الدولي، دون أن تتخلى عن أولوياتها الوطنية، فمنذ نهاية الحرب، ظلّ الهمّ الأكبر للسوريين هو إعادة بناء الدولة لا فقط الحجر، وعودة صوتهم إلى العالم بعد أن حُجب لعقود بفعل نظامٍ أنهك البلاد وعزلها.

من هذه الزاوية، يمكن قراءة الزيارة بوصفها إعلان نضوج سياسي أكثر مما هي خطوة بروتوكولية.. فالشرع، الذي واكب مراحل التحرير وإعادة تشكيل المؤسسات، أراد أن يُظهر للعالم أنّ سوريا الجديدة ليست مشروعًا مؤقتًا، بل دولة قادرة على تمثيل نفسها والتحدث باسم شعبها الموحد.

 وبينما كانت بعض القوى الخارجية تراهن على انقسام الداخل، جاءت صور الاستقبال الرسمي لتؤكد عكس ذلك: أنّ القيادة الجديدة تحظى بشرعية منبثقة من الأرض ومن مسارٍ سياسي شارك فيه السوريون جميعًا.

لكن الرسالة الأعمق وُجهت إلى السوريين أنفسهم، أنّ زمن العزلة انتهى، وأنّ التحدي الآن هو استعادة الثقة بالدولة كمؤسسة، لا كشخص أو فصيل، فلقاء الشرع مع الإدارة الأمريكية لم يكن تنازلاً كما حاول البعض تصويره، بل خطوة لإعادة سوريا إلى دائرة القرار، ولإيجاد ممرات دعم اقتصادية وإعمارية يحتاجها الداخل بشدة.

وبينما يحتفل الشارع السوري برمزية الزيارة، يتعامل صانع القرار معها ببرود محسوب، فطريق التعافي لا يُختصر بلقاء أو تصريح، لكنّه يبدأ بخطوةٍ كهذه، تُعيد لسوريا موقعها الطبيعي كلاعب متوازن في الإقليم، ودولة تعرف كيف توازن بين كرامتها ومصالحها، إنّها اللحظة التي تعلن فيها دمشق أنّ زمن الحرب انتهى… وأنّ زمن السياسة بدأ فعلاً.

بهذه الزيارة، تُدشّن سوريا مرحلة جديدة من تاريخها الحديث، لا تُقاس بمكان الاستقبال أو عدد الصور الرسمية، بل بما ترمز إليه سياسيًا ومعنويًا.. فلقاء الرئيس أحمد الشرع مع المسؤولين الأميركيين لم يكن عودة إلى “علاقات ما قبل الثورة”، بل تأسيسًا لعلاقات ما بعد الحرب، حين صار السوريون هم من يملكون قرارهم، ويعرفون كيف يقدّمون أنفسهم للعالم كدولة لا كملفّ.

من الحرب إلى السياسة، ومن العزلة إلى الشراكة، قطعت دمشق طريقًا شاقًا نحو الاعتراف الدولي، مدعومةً بوعيٍ وطنيٍّ متماسك يدرك أنّ الكرامة والسيادة لا تُختزلان في رفع الشعارات، بل في بناء مؤسساتٍ تحمي القرار الوطني، وتفتح في الوقت نفسه أبواب التعاون.

الشرع، في زيارته إلى واشنطن، لم يحمل معه فقط ملفات الإعمار والأمن، بل حمل ملامح الجمهورية العربية السورية الجديدة، من خلال الواقعية في الخطاب، الموازنة في التحالفات، ومطمئنة إلى نفسها بعد عقدين من القطيعة والصراع. إنّها زيارة تُعيد صياغة المشهد السوري مجدداً، وتجعل من الدولة التي كانت تُعامل كعبءٍ على العالم، شريكاً محتملاً في صناعة الاستقرار.

قد لا تتبدل المواقف بين ليلة وضحاها، لكنّ الأكيد أنّ باباً فُتح، وأنّ صوتاً سورياً عاد يُسمع في عواصم القرار، ومن واشنطن تحديداً، يبدأ زمن آخر، زمن الدولة التي تعرف ما تريد، وتعرف أنّ العالم لم يعد ينتظرها، بل يراقب كيف ستعود.

شارك

مقالات ذات صلة